الهوس بالهوية المصرية.. أو كيف نصنع عدوًا في المنزل بمكونات بسيطة؟
مقال رأي

الهوس بالهوية المصرية.. أو كيف نصنع عدوًا في المنزل بمكونات بسيطة؟

في الشهور الأخيرة، وصلت ادعاءات أنصار المركزية الأفريقية إلى مصر، مما أثار جدلاً حول الهوية العرقية

في الآونة الأخيرة، ازداد الاهتمام بالهوية المصرية، حيث ظهرت خطابات قومية وهوياتية في مصر للدفاع عن ما يُسمى بالهوية المصرية الوطنية. وفي رحلة البحث عن هذه الهوية، والدفاع المستميت من أجلها، يخلق كل خطاب من هذه الخطابات عدوًا وهميًا يحاول الاستيلاء على الهوية المصرية أو طمسها، ليزداد معه -طبعًا- حب الوطن. 

لكن ما هي أسباب وجود هذه الخطابات على الساحة حاليًا؟ ولماذا ترعاها وتباركها الدولة المصرية؟

إعلان

البحث عن هوية وسط ركام الخطابات القومية

ازدهرت الخطابات القومية في مصر في النصف الثاني من القرن العشرين، مع بدء تأسيس "الدولة القومية" وانتشار المفهوم سياسيًا حول العالم كمفهوم حداثي للدولة. وعلى إثرها، تم إجلاء الاستعمار البريطاني، لتبدأ حقبة قومية عربية من أجل تحرير البلدان المجاورة، خاصة بعد النكبة في ١٩٤٨.

كانت الهوية نقطة ارتكاز لخطابات مناهضة الاستعمار، ومنطقة صراع حافلة حتى داخل حركات التحرر. وغالبًا ما يضع المدافعون/ات عن الهوية الوطنية أنفسهم/ن في مواجهة "الآخر" الذي يحاول طمس الهوية بوصفها مجموع القيم والتراث والثقافة المحلية التي تميّز كل جماعة بشرية عن غيرها. 

في بداية القرن العشرين، شهد مفهوم الهوية الوطنية في مصر تحولاً تاريخياً. وسعى المصريون إلى الحفاظ على هوياتهن/م الوطنية في مواجهة الاحتلال البريطاني، وفي مواجهة محاولات التغيير من قبل دعاة التحرر الاجتماعي. وفي النهاية، تحددت الهوية الوطنية المصرية بالعادات والتقاليد الشرقية والإسلامية، التي ميزتها عن مستعمرها البريطاني المسيحي الغربي.

وفي عام ١٩٢٣، نص الدستور المصري على أن مصر دولة عربية إسلامية، وهو ما أكدته الدساتير اللاحقة حتى الدستور الحالي. ومع بدء الدولة القومية المصرية، أصبح مفهوم الهوية الوطنية المصرية أكثر مرونة، خاصة مع محاولات جمال عبد الناصر لوحدة الدول الأفريقية وتعبئة الشعوب العربية ضد إسرائيل والولايات المتحدة.

لكن بسبب عامل اللغة الذي لم يوفّق الدول الأفريقية في هذا الامتداد لإعادة تعريف الهوية المصرية، امتدت لتصبح هوية قومية تضع كل الشعوب الناطقة بالعربية في خانة واحدة: "عرب."

إعلان

فشل المشروع الناصري، ولم تحقق القومية العربية إلا بعض المكاسب في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، الذي تم التطبيع معه في النهاية. لكن الإرث الذي تركته القومية العربية، والذي يؤكد أن مصر دولة عربية إسلامية، استمر في التعبئة الاجتماعية والسياسية. ومع انتشار الخطابات الحقوقية والنسوية في نهاية القرن العشرين، وجد هذا الإرث متنفسًا للتعبير عن نفسه من خلال صناعة "الآخر"، الذي يمثل قطب التغريب والتهديد للهوية العربية الإسلامية. وبذلك، أصبحت كل دعوة للتغيير الاجتماعي هي مجرد تهديد لهذه الهوية.

الهوية الفرعونية المصرية في مواجهة القومية العربية

شهد خطاب الهوية المصرية تجددًا بعد ثورة يناير ٢٠١١، خاصة بعد صعود التيار الإسلامي السياسي. وقد حظيت الحضارة الفرعونية القديمة باهتمام كبير، باعتبارها الهوية المصرية "الأصلية" قبل الاحتلال والفتح الإسلامي. وأصبح اسم "كيميت" -اسم مصر في اللغة المصرية القديمة- شائعًا، وصاحبه نقد علماني لمفهوم الهوية العربية الإسلامية.

وارتكز النقد الأخير على فكرة أن الحضارة الفرعونية بدأت قبل حضارة شبه الجزيرة العربية، وأن هذا الافتخار بالهوية الفرعونية نابع من فهم أن المصريين القدماء بنَوا حضارة عظيمة حاول "العرب" محوها بعد الفتح الإسلامي لمصر.

 لم يخلُ هذا النقد من العنصرية ضد شعوب البدو والثقافات الصحراوية، ووصفها بـ"البدائية"، لترجيح كفة الهوية الفرعونية والاستعلاء الثقافي بها. لكن لم يستمر هذا الوضع طويلًا بسبب النزاع السياسي على السلطة بعد الثورة، والذي تضمن أيضًا صراعًا حول الهوية المصرية: هل هي عربية إسلامية أم مصرية مدنية؟ وهما قطبان متضادان لم يُكتب لأيّ منهما الاستمرار إلا مؤخرًا.

إعلان

لسنا عرب، ولسنا أفارقة

لم يقتصر هذا النقد لمفهوم "الهوية العربية" باعتباره سطوًا عربيًا على حضارات الشعوب التي تم غزوها في العصر الإسلامي على مصر فقط، بل اعتادت بلدان شمال أفريقيا أيضًا على رفض مصطلح الهوية العربية التي تم فرضها بعد الغزوات الإسلامية وأثناء مراحل مناهضة الاستعمار.

في بلدان مثل تونس وليبيا والجزائر والمغرب، يتم تفضيل مصطلح جغرافي "شعوب شمال أفريقيا"، وهو بالنسبة إلى كثيراتٍ/ون أفضل من وصف "شعوب عربية أو مغاربية" نظرًا للتنوع الإثني ووجود جماعات أخرى كالأمازيغ وشعوب الصحراء المحتلة.

لم يكُن لمصر أي موقفٍ يُذكر تجاه المصطلح الجغرافي على مستوى الخطابات والسياسات، رغم موقعها في شمال أفريقيا، ووجود انتقادات لمصطلح الهوية العربية.

لكن في الشهور الأخيرة، وصلت ادعاءات أنصار المركزية الأفريقية  أو Afrocentrists إلى مصر، مما أدى إلى إحياء سؤال الهوية. لكن هذه المرة، لم يكن السؤال متعلقًا بالاستعلاء الثقافي، بل كان متعلقًا بالعرق.

المركزية الأفريقية وإعادة فهم التاريخ

في مقالها النقدي، فككّت الدكتورة سها بيومي، كبيرة محاضري كلية الطب والإنسانيّات بجامعة جون هوبكنز بالولايات المتحدة، ما وصل إلى مصر مؤخرًا من أفكار تعني بالمركزية الأفريقية. حيث تسرد بداية المركزية الأفريقية في بداية القرن العشرين في الأمريكتين بسبب العنصرية الهيكلية والمُمأسسة ضد ذوات/ذوي الأصول الأفريقية.

إعلان

 وكانت بداية هذا النشوء محاولة لمواجهة المركزية الأوروبية التي تدّعي تفوّق العرق الأبيض، ومنها انطلقت كتابة التاريخ الرسمي باعتبار أوروبا مهد الحضارة والتقدم. لكن هذا التاريخ أوروبي المركز يُبرر التحركات الاستعمارية التي تقوم بها الدول الأوروبية لبلدان الجنوب العالمي بحجة أنها "شعوب متخلفة وغير متحضرة." 

كما يُنكر اسهامات أي حضارة لم تكُن أوروبا والرجل الأبيض مركزها، بما في ذلك الحضارة الفرعونية، وحضارات شرق ووسط وغرب أفريقيا.

تحوّلت المركزية الأفريقية إلى حركة اجتماعية مع حركة التحرر المناهضة للعنصرية في منتصف القرن العشرين. وتوضّح سها بيومي أنها لم تكن قائمة على ادعاءات التفوّق العرقي كما هو الحال في المركزية الأوروبية. فهو تقوم على إعادة قراءة التاريخ وفهمه، وتفكيك مفهومي "الحضارة" و"التاريخ" نفسيهما.

وتُشدد أن هناك بالطبع ادعاء بالتفوق العرقي من بعض أنصار/نصيرات المركزية الأفريقية، إلا أنه غير مؤثر ويتعرض للنقد داخل الحركة.

أوهام التفوّق العرقي وسرقة التاريخ المصري

 لأسبابٍ متعددة، لم يتمكن كثير من المصريات/ين من فهم حركة المركزية الأفريقية وتاريخها وأهدافها، وكيف يمكن أن تساعد مصر في تفكيك تاريخها من منظور غير معتمدٍ على العرق. ما وصل إلى مصر من هذه الحركة هو الادعاءات الأقل تأثيرًا، والتي تزعم أن حضارة مصر الفرعونية هي حضارة "سوداء."

 وكان ذلك كفيلًا بانتفاضة مصرية هويتاية ضد كل ما هو أفريقي أو أسود. وبسبب هذا الشعور بالتهديد من سرقة التاريخ الفرعوني، تم إلغاء حفل الكوميديان "كيفن هارت" في مصر، بسبب تصريحات تُنسب إليه وتدّعي أن أجداده الأفارقة هم ملوك مصر. كما تم كذلك إلغاء حفل "ترافيس سكوت"، لأسبابٍ مشابهةٍ.

إعلان

وبغض النظر عن أن هذه العبارة نفسها إشكالية، لأن مصر دولة أفريقية شاءت أم أبَت، فهذا الغضب شمل منصة "نتفليكس" بعد إعلانها عن وثائقي يتناول حياة الملكة المصرية البطلمية "كليوباترا"، وتقوم ببطولته ممثلة "سوداء."

وانتشرت تعليقات ومنشورات من مصريات/ين تصد هذا الهجوم "الأفريقي" على الحضارة الفرعونية. وكانت هذه الاشتباكات على الإنترنت فجة وعنصرية، وتستخدم لون البشرة كدليل على العرق. بجانب صورٍ لجداريات فرعونية تظهر أشخاص سود يبدو أنه تم استعبادهن/م.

أشعل هذا الغضب وهم تفوّق الفراعنة عرقيًا على سكان أفريقيا، وصحبه نفيًا قاطعًا أن تكون الحضارة الفرعونية "أفريقية." الهزلي في هذا الغضب أنه مبنيٌّ على اعتبار لون البشرة دليلًا دامغًا على "أصالة العرق"، والذي هو مفهوم سطحي واستعماري لأن كل البشر مختلطي الأعراق بما فيهن/م سكان أوروبا وأمريكا.

كيميت والبحث عن هوية مصرية

تسبب هذا الغضب في عودة كلمة "كيميت" إلى ساحة النقاش. حيث بدأ البعض في تعريف أنفسهن/م بالهوية الفرعونية على حساباتهن/م الشخصية بمواقع التواصل، للتدليل على أن الهوية المصرية لن تكون إلا فرعونية. يغضُ هذا التعريف النظر عن التنوع العرقي في مصر القديمة، كما تفككه سها بيومي. كما يغض النظر عن حقبات استعمار مصر لقرونٍ طويلة من مستعمرين من أصول عرقية مختلفة، وأن وجود هؤلاء في مصر تسبب فيما يشبه بقطع الأوصال "العرقية الأصيلة" بين المصري القديم والمصري الحديث.

وتبقى بنات/أبناء كيميت، كما تعرفن/ون أنفسهن/م، معزولين عن قراءة تاريخ مصر إلا من خلال عيونٍ أوروبية بيضاء.

وهو نفس المفهوم الأوروبي الذي جلبه المستعمرون الأوروبيون لأفريقيا ومصر، إذ ينفي معه أي تنوعٍ عرقي، ويضع العرق الأبيض في صلب الخطاب حتى بعد إجلاء الاستعمار.

إعلان

وهناك ممارسات تمييزية في مصر ضد الأشخاص ذوات/ذوي البشرة السوداء. فلا يزال هؤلاء يتم استقدامهن/م من المحافظات المصرية للعاصمة للعمل في القطاع الخدمي، خاصة غير الرسمي. ليتحد لون البشرة مع الطبقة ويتم اعتبار ذلك دلالة تفوّق أخرى. 

كذلك ينتشر هذا المفهوم العرقي للون البشرة في بلدان أفريقية غير مصر، بسبب المركزية الأوروبية المستعمرة. فنجد تمييزًا من أشخاص سود ضد أخريات/آخرين بسبب قتامة لون البشرة، أو ميلها للأزرق أو الأحمر أو الأبيض والأصفر.

لماذا ترعى الدولة المصرية هذا الصراع على الهوية؟

في سلسلة "الحوار الوطني" الذي عقدته مصر مؤخرًا مع عدة فاعلات/ين في الشأن العام، تأتي جلسة "الهوية الوطنية" لتتوّج هذا الصراع الذي – يا للعجب – كل أطرافه من مصر. وربما تكون تلك إحدى المرات النادرة التي تشتبك فيها الدولة مع أفكار متداولة في المجتمع المصري، دون تدخّل أمني كما جرت العادة. 

رغم أوضاعها الاقتصادية والسياسية الصعبة، تحتاج مصر إلى تعبئة حول حب الوطن والدفاع عن أراضيه من الأعداء والدخلاء. لكن يجب أن تتم هذه التعبئة بطريقة لا تضر بمصالحها الاقتصادية التي تعاني حاليًا من الانهيار بسبب التعويم الأخير وشروط البنك الدولي.

في هذا الصدد، تعتبر تغذية الصراع الهوياتي أمرًا مفهومًا، بل وضروريًا للتمسّك بوطنٍ يأكل أفراده أحياء. ومصر لا تتفرَد بهذا النهج، إذ تعتاد الحكومات في أوقات الانهيار والفشل خلق أعداءً وهميين، لينسى الجميع الصراع على القوت والصوت الحر، وينطلقن/ون في رحلة دفاع عن الوطن ضد العدو. لكن مَن هو العدو؟

لا شك أن "الأعداء" أو "الدخلاء"، يستهدفون الوطن، إن لم يكن باحتلال أراضيه ونهب ثرواته، كشكلٍ كلاسيكي للاستعمار. فحتمًا سيكون بإزالة وهدم تاريخه، أو إغراقه في الديون الدولية، أو كليهما.