Bahla'a
مسكون

الساحرتان غيثاء وميثاء وأسطورة بناء الجن لسور بُهلاء

هناك شجرة يمكن أن تسبب الموت المبكر لأي شخص يلمسها لأن الساحر ألقى تعويذة عليها

مسكون: في هذه السلسلة نسترجع قصصنا العربية الموروثة كجزء من استعادة السردية، بعيداً عن صحتها أو مدى إيماننا بالجن أو قوى ما فوق الطبيعة. هذه القصص تظهر كيف تتشابك التقاليد مع الدين مع عالم الموارئيات مع الترفيه.


"سورٌ مُحْكَمُ البِناء، دقيقُ الإنشاء، نَدُرَ وجود مَثِيلٍ لهُ في تلكم البَوادي والبِقاعْ، فطال الحديث عن عجائبه في النَّوادِي والرِّقاعْ."

بين ليلة وضحاها حُوطت مدينة بُهلاء ومن فيها بسور حصين متين بمسافة تصل 13 كيلومتر، شَيّده الجن بأمرٍ من الساحرتين غيثاء وميثاء، فاستيقظ أهالي المدينة ليجدوا أنفسهم محاطين بأطول وأعظم سور في تاريخ عُمان، هكذا تحكي الأسطورة.

إعلان

تقع ولاية بُهلاء - تبعد 200 كيلومتر جنوب غرب العاصمة العمانية مسقط- وتمتد جذور المدينة الأثرية للألفية الثالثة قبل الميلاد، وقد صنفّت من أشهر خمس مدن عالمية يسكنها الجن، فقد اشتهر سحرة بهلاء بمعرفتهم الواسعة لعلوم السحر الدفينة وامتلاك قوى خارقة يستحيل مجاراتها. اشتقت بُهلاء بضم الباء من البُهل أي جامع الخير، ويروى بأنها سميت كذلك نسبة للجبل الذي أسس عليه حصن بهلاء. كل من يزور القرية، يتحدث عن أمور غريبة تحدث هناك. ويقال أن الحرائق تندلع بشكل عفوي في الشتاء، وتنهار الجدران ولا يمُكن إعادة بنائها، وهناك أشجار قد تسبب الحظ السيء والموت المبكر لأي شخص يلمسها. كل هذا، كما يقول السكان المحليون، من عمل الجن. 

تتألف المدينة التي ما زالت محاطة إلى اليوم بسور عظيم من 3 أقسام، السور، والسوق وهما معلمان أثريان بنيا قبل الإسلام والقلعة التي بنيت في القرن الـ 18. ويضم السور أبراج للمراقبة وأبراجًا للجند وأبراجًا لرمي السهام والبنادق، كما يضم 7 أبواب. عاصرت الولاية عدة حضارات وتمتاز بوجود قلعة بهلاء العريقة التي أضيفت لقائمة اليونسكو التراث العالمي عام 1987  كأول موقع أثري بسلطنة عُمان، ولكن ما الذي يميّز سور القلعة العظيم عن أي سور آخر؟ 

يعود تاريخ تشييد السور وقلعة بهلاء بحسب بعض المصادر إلى الألف الثالث قبل الميلاد. بدأت القصة عندما حاول حاكم مدينة مجاورة استغلال ضعف بهلاء لتحقيق مصالحة الشخصية ببناء مدينة قوية، فأجبر حاكمها على دفع مبالغ مالية شهرياً لقاء حمايتهم وعدم التعرض لهم بأية سوء، تم الاتفاق بتحقيق الحاكم لمكاسب كبرى من أهالي بُهلاء الذين تضرروا مادياً وأوشكوا على الإفلاس بسببه، فما كان لهم إلا أن يطرقوا باب السحر. 

إعلان

نشأت الأختان غيثاء وميثاء في ربوع بُهلاء، تعلمتا كافة علوم السحر وأتقنتا استخدامه للخير، وبعكس الهالة الشريرة والمخيفة التي يرسمها المجتمع عن السحرة، فقد كانت الأختان تمتلكان القبول والمحبة الغامرة بين أهالي المدينة وهو السبب الذي دعاهم لطلب المساعدة منهنّ. 

استنجد أهالي بهلاء بالأختين لإنقاذ أهل المدينة من بطش حاكم المدينة الذي هدد بغزوهم ما لم يدفعوا له المال، فلبين النداء دون تردد وَوعدن بحماية بُهلاء بكل ما يملكن، ووفت الأختين بوعدهن على الفور، ومع حلول الليل ومبيت أهالي المدينة، استدعت الساحرتان عشيرة الجن الكبرى وباشروا ببناء سور حربيّ حصين يستحيل لأي مخلوق خرقه.

سوّرت المدينة بأكملها في ليلة واحدة وأفاق أهالي بُهلاء بذهول وتعجّب من سرعة بناء سور متين بسبعة أميال في غضون ساعات قليلة. وضعت الساحرتان الأهالي بمأمن تام وحصن منيع وحان وقت المواجهة، عادت جيوش الحاكم لبُهلاء كي يأخذوا الأموال المتفق عليها، فذعروا من رؤية السور وعادوا أدراجهم بدون تحصيل الأموال، ومنذ تلك اللحظة، لم يتجرأ أحد على مضايقة أهل المدينة بعد ذلك. 

تعتبر هذه القصة الأشهر عن تاريخ بناء سور بهلاء. تشير المصادر التاريخية إلى أن الجزء الشرقي الشمالي من القلعة بني إلى فترات متفاوتة من الزمن، ما قبل الإسلام، أما الجزء الشرقي الجنوبي فيعود تاريخ بنائه إلى عصر الدولة النبهانية التي حكمت عُمان لما يقرب من خمسة قرون. يقول المؤرخون إن أسطورة الجن في بهلاء قد ترجع إلى القرن الثاني عشر  عندما كانت المدينة مركزًا عسكريًا ودينيًا وأراد حكامه منع السكان المحليين من الخروج من أسوار القلعة إلى الصحراء، ولهذا انتشرت إشاعات عن الأرواح الشريرة التي تقوم بخطف السكان وقتلهم.

إعلان

يسهل تخمين سبب بناء السور من النظرة الأولى، فجميع تفاصيله تؤكّد بأنه قد بني لهدف دفاعيّ حربيّ ويستبعد المعماريون بأن يكون للجن يد ببناء السور، لأنه بني بدقة هندسية وحرفية عالية، لكن الرواية الشعبية الأشهر تعيد الفضل لغيثاء وميثاء وجيوش الجن ببنائه.

تقول الأساطير الشعبية بأن الجن تكَفَّل برعاية القلعة بعد أن جعلها مسكنه الخاص، فلا يقترب أحدٌ منها إلا وأصابه شيء من الضُّرر، وأن الأثريين الذين كانوا لا يُرمِّمون منها جزءاً أو رُكناً إلا عادوا في وقت آخرٍ ليجدوه كما كان خرابًا و كأنهم لم يصنعوا شيئاً. ​​وأن هناك غرفة سريّة داخل القلعة من يجرؤ على دخولها فسيخرج منها فاقداً بصره. كما تتضمن السيرة الشعبية حكاية عن أشخاص تحولوا إلى حيوانات، أو تم مطاردتهم من قبل الجن بسبب وجودهم في أماكن ملعونة، لدرجة أن بعض السكان طالبوا ببناء جسر فوق المدينة حتى لا يضطروا إلى المشي فيها.

وتقول الأسطورة أنه تم  رجم رجل حتى الموت من قبل سكان قرية بهلا لممارسته السحر. ولمعاقبتهم على ذلك قام بلعن القلعة من خلال منع ترميمها، ففي كل مرة يتم بناء جزء في النهار، تتحول إلى مجرد أنقاض في الليل. ويقال إن أولئك الذين يموتون موتاً عنيفاً، تعود أرواحهم كجن ويطاردون قاتليهم. ويقال أن هناك شجرة تنمو في القلعة من شأنها أن تسبب الموت المبكر لأي شخص يلمسها لأن الساحر ألقى تعويذة عليها، وأنك إذا لم تكن من بهلاء ولمست الشجرة، فسيكون مصيرك محنة كبيرة وموت مبكر.

إعلان

طريق الوصول إلى ولاية بهلاء يمر بجبال شاهقة يصل ارتفاعها إلى ما يزيد عن 3 آلاف متر وسلسلة من الجبال البركانية، وللوصول إلى ولاية بهلاء لابد من المرور بالقرب من نزوى، التي كانت عاصمة لسلطنة عُمان بالماضي وبها حصن وسوق. تنتشر في أحياء المدينة القديمة بيوت فارغة ومهجورة، يعتقد البعض أن المدن المهجورة مناسبة لتسكنها الأرواح، لذلك يسمونها مدن الأشباح.

عمل سيف العبري، باحث مهتم بالتاريخ العُماني، في ولاية بهلاء لأربع سنوات، ولديه مخزون كبير من القصص التي تناقلها سكان المنطقة كما يقول: "بنى سكان بهلاء القدماء السور كدرع حماية للولاية في أيام الحروب -في عصر النباهنة - وكانت تقام القبائل للاستيلاء على مصادر الريّ التي تشتهر بها المنطقة -وخاصة الأفلاج قنوات مائية تُستخدم في الري والزراعة."

يحيط بهلاء 175 فلجاً أقدمها فلج الميثاء الذي لم يعرف تاريخ إنشائه، يمر الفلج تحت السور بعمق 12 متر وتمتد قنواته في أنفاق طويلة وضيقة تحت سطح الأرض، وتقول رواية شعبية بأنه سمي بالميثاء نسبة للساحرة ميثاء التي ساعدها الجن بحفرِه. ويقال بأنه لو سقط خاتماً فيه فسيظهر على الفور في فلج مدينة أخرى تبعد 200 كم. 

ويُعد (فلج دن) الواقع ببلدة معول في بهلاء من أكثر الأفلاج شهرة وغرابة، حيث تدور حوله قصص بسبب عدم انتظام وتيرة تدفق المياه فيه، كما أنه لا يرتبط بهطول الأمطار، ويردد سكان المنطقة "يوم حالنا ويوم للجن" (يوم لنا ويوم للجن) مفسرين ذلك بأن الفلج تم تقسيمه سبعة أيام للإنس وسبعة للجن يحبسون الماء فيها.

إعلان

ويقول العبري أنه سمع الكثير من القصص المتداولة عن القلعة كأن شركة باتت تحاول ترميم القلعة لأكثر من 15 عاماً حدثت فيها الكثير من الأمور الغريبة للأفراد العاملين فيها من سماع أصوات غريبة وتحركات مخيفة لاعتقادهم بأن الجن يسكنها.

ويضيف: "في ولاية آدم نشب خلاف بين أهالي المنطقة الذين فشلوا بالاتفاق على اختيار مكان لبناء موحد لبناء مسجد، وعندما عادوا للمنطقة في اليوم التالي وجدوا المسجد قد بني في يوم وليلة وسميّ مسجد باني روحه. أنا شخصيًا أؤمن بأن الله قد خلق الجن قبل البشر، ويمكن للبشر التحكم بالجن والشياطين وتسخيرهم لمرادهم من خلال قراءة  النسخ الأصلية من كتب الاستحضار كالغزالي أو شمس المعارف. يستخدم بعض العلماء استحضار الجن لشفاء المسحور وعلاجه بالإضافة للقرآن الكريم."

لمى المعمري، 27 عاماً، تعمل عائلتها في سوق بهلاء منذ سنوات، وسمعت الكثير من القصص حول سور الجن الذي يقع في منتصف السوق، وتقول: "يقال بوجود جن داخل أسوار السوق، وقد تسمع صوتاً ينادي على من يتكئ على هذا الجدار، ويتم اختياره للبيع في مزاد الجن (أي يتم تلبسه لخدمتهم، حيث يتم مسخه لأحد أنواع الحيوانات المستخدمة في أعمال السحر). كما يوجد هناك شجرة لا تموت أغصانها بل تعود لتنمو من جديد بعد قطعها. أنا أؤمن بتواجد الجن في كل مكان فهم خلقوا ليعبدوا الله وبلا شك هناك حكمة بأننا لا نراهم ليس لأنهم أقوى منا. ولكنهم لن يؤذوننا مالم نؤذيهم."

سحر البلوشي، 31 عامًا، تقول أن بهلاء موطن السحرة، وهذا ما اكتشفته بعد أن انتقلت وزوجها للعيش فيها لمدة سنتين لم تشعر فيها الراحة أبداً، وتضيف: "بدأت اسمع قصصًا تزعم بأن سحرة بهلاء يستطيعون السفر بسرعة الضوء لأية مكان بمجرد رسم خط مستقيم للمكان المراد وعند تعديه يصلون حيثما يريدون. تجاهلت كل غرائب القصص لكن ما حدث لزوجي كان مريعاً وغير قناعاتي. تأثر زوجي بتاريخ المدينة وانخرط مع بعض مشايخ السحر حتى سحروه فأصبح يحبس نفسه بغرفه طوال اليوم ولا يحدثني، عندما اعترف لي بأنه قد سُحر لم أصدقه، ثم لاحظت آثار ضرب وتعذيب تملأ جسده، فزعت جداً وأخذته للمستشفى. ولكن كان السحر أقوى من الطب، ولم نتمكّن من فك اللعنة التي أصابته، وتوفي زوجي في النهاية. وتركت بهلاء للأبد منذ ذلك الحين."