اقتصاد

لبنان ودولارات المغتربين: "ابعتوهم ولا تجوا"

"أوضاع البلد تؤثر علينا مباشرةً، نحنا علقانين هون، مشاعرنا وعقلنا هون"
Lebanon_USD_BF

"تعا ولا تجي" هكذا تقول فيروز لحبيبها في إحدى أغنياتها، وقد تعبر هذه الكلمات عن التململ الذي يشعر به المقيمين اللبنانيين بعد انتشار مظاهر بذخ بعض المغتربين الذين زاروا لبنان هذا الصيف. تجلت هذه المظاهر في الصور والفيديوهات التي نراها على إنستغرام للملاهي الليلية الممتلئة، والفواتير الطعام الباهظة التي تنتشر أحياناً على السوشيال ميديا.

من دعم السوق السوداء عبر شراء البنزين منها، وزيارة مسبح الايدين باي المخالف للقانون والمبني على أملاك عامة، إلى مساهمتهم بارتفاع إيجارات الشقق السكنية، تراوحت تعليقات اللبنانيين على تأثير قدوم المغتربين إلى لبنان. ويعبر أحمد عن ما يشعر به اللبنانيين بالقول في بوست على فيسبوك: "الله يريحنا من تقل دم المغتربين اللي بيصرعوا راسنا انو هني عم يدفعوا حق الاشيا اكتر من حقها الحقيقي بشوي، عن طيب خاطر وكرم قال كرمال يساعدو العالم. انو عنجد الانهيار الشامل السريع اسهل من هالموت البطيء."

إعلان

ومن ينظر إلى المشاكل على محطات البنزين، يمكن أن يرى الاحتقان الحاصل بين الطبقات الاجتماعية في سعيها اليومي لتأمين حاجاتها من السلع الأساسية. وجود فئة من اللبنانيين قادرة على الدفع أكثر مقابل عدم الانتظار تساهم في خلق سوق سوداء على الكثير من السلع كالبنزين والمازوت والدواء أو تساهم بالطلب أكثر على الدولار في السكن مثلاً، وهذا ما يخلق نقمة لدى المواطنين الآخرين الذين يعتبرون نفسهم مستهدفين بعيشهم بسبب تصرفات المغتربين والمرتاحين مادياً.   

ولكن في المقابل، ألا يتعرّض المغتربين لبعض الظلم؟ إذ طالما رآهم النظام الاقتصادي اللبناني على هيئة صراف آلي لضخ العملات الصعبة في البلاد المثقلة بالديون؟ فأصبحت أموال المغتربين التي تتدفق إلى لبنان جزء أساسي من الاقتصاد، والتي بلغت العام الماضي حوالي 7 مليار دولار رسمياً، فيما قد تصل في الحقيقة إلى 12 مليار دولار بسبب الأموال التي تأتي نقداً ومباشرةً عبر الأشخاص.

يأتي هذا الامتعاض في ظل أزمة اقتصادية ومالية تضرب لبنان منذ عام 2019، وتتفاقم كل يوم مع تدهور قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار، فبعد أن كان الدولار الأميركي يساوي 1،500 ليرة لبنانية قبل تشرين الأول 2019، أصبح اليوم يساوي حوالي 20،000 ليرة، أي أن العملة اللبنانية فقدت أكثر من ٩٠٪ من قيمتها، وبما أن لبنان بلد غير صناعي ويعتمد بشكل أساسي على الاستيراد، فإن التضخم أصاب جميع السلع الأساسية وجميع القطاعات، كالصحة والنقل والمواد الأولية، والغذاء، وهذا ما أدى الى فقدان سلع كثيرة من بنزين ومازوت ودواء بسبب عدم قدرة الدولة على تأمين الدولارات اللازمة لشراء هذه المواد.

المشكلة أن الانهيار الاقتصادي جعل البلد "رخيص" على المغتربين والأجانب، بينما هو شديد البهظ على المقيمين الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية. وفي ظل غياب الدولة في تنظيم العلاقة بين المواطنين، سادت التفرقة الطبقية بين اللبنانيين الآتين من بلاد الاغتراب وبين "السكان الأصليين" وبات التجار ومالكي العقارات يطمعون بالدولارات الطازجة من المغتربين والأجانب، وهو ما ساهم بطرد الكثير من اللبنانيين في بيروت من منازلهم، بسبب عدم قدرتهم على السكن في الصيف، ولأن الطلب على المنازل يرتفع مع قدوم المغتربين والسياح.

إعلان

هيفاء داوود، 26 عاماً، التي تعيش وتعمل في بيروت، تقول إنها نقلت سكنها 4 مرات خلال شهر يوليو، وأثناء بحثها عن شقة في بيروت، ردّد أغلب السماسرة عبارة واحدة: "انتظري حتى نهاية أيلول بعد مغادرة المغتربين، حينها ستهبط أسعار الإيجارات السكنية،" تقول داوود في إشارة للمغتربين. 

هذه العلاقة المتوترة والمستجدة بين المغترب والمقيم تجلّت عبر وسائل التواصل الاجتماعي. "هذا الصيف، نتفرج على المغتربين  والمغتربين يتفرجون علينا، كسعادين تلوح بالموز لقرود في اقفاص.." هكذا عبّر الكاتب والمسرحي اللبناني  يحيى جابر على صفحته على فيسبوك معلقاً على تدفق المغتربين إلى البلاد.

وعند سؤال جابر عن سبب هذا التعبير، يقول لـ Vice عربية: "ما يستفزني من المغترب ويومياته اللبنانية من لحظة وصوله إلى المطار إلى لحظة مغادرته هو تماديه بالتأفف من كل شيء، ويشلحنا تأففنا كمقيمين ونشعر معه بالتقصير ونبحث عن راحته، كأن نخبي النفايات ومشاهد الطوابير عنه، ويروح المغترب مع المدام والأولاد المغتربين بالتأفف طوال وقت وجودهم في مونولوج مع إيقاع حزين محزون..الزبالة أفففف… الكهربا أففف... البنزين أففف… ويبالغ في شتمنا كشعب مقيم. قطيع. جبناء."

ولكن جابر يتفق بنفس الوقت على أن المغترب هو أيضًا ضحية النظام السياحي "الذي ينظر إليه كدولار يمشي على الأرض وتتساقط من جيبه الأموال وتلحقه الطيور المقيمة الجائعة. حتى أنهم خصصوا له شهر المغترب وملكة جمال المغتربين، والأغاني التي تنافقه لتعصر جيوبه من عيونه الدامعة للعودة إلى الوطن."

رأي ظالم؟
"هذا النقاش هو ظالم بحق المغتربين،" تقول سارة سبيتي، التي تعيش في دبي منذ 8 سنوات وتزور لبنان كل شهرين، والتي لم تغيّر عادتها حتى بعد الأزمة: "أتذكّر آخر سهرة قضيتها في إحدى الملاهي الليلة، كنا 15 شخصاً على الطاولة، أنا المغتربة الوحيدة بينهم."

إعلان

وتضيف: "الزحمة في البلد ليست فقط بسبب المغتربين، هناك أشخاص ما زالو يتقاضون بالدولار، لهذا تحميل المسؤولية للمغتربين ظالمة كثيراً. أوضاع البلد تؤثر علينا مباشرةً، نحنا علقانين هون، مشاعرنا وعقلنا هون، ولسنا سعيدين بالانهيار ولو أنه انعكس علينا إيجابياً من ناحية تدني الأسعار، إلا أن أهلنا وأصدقائنا لا يزالون جميعاً هنا ونشعر بمعاناتهم."

تقول سارة أن المشكلة ليست بالمغتربين، بل بالدولة والتجار الذين يستغلون المأساة لكسب الأرباح: "لم أشعر بالذنب أن البلد أصبح أغلى، لأن التجار هم المسؤولين عن هذا الأمر وليس المغتربين، ولم أستفد من هذا الأمر، ولكن الإحساس بالذنب موجود دائماً عند رؤية الفاتورة في لبنان، التي يمكن أن تكون مصروف عائلة لشهر كامل." 

علي مكي، 38 عاماً، أستاذ مدرسة مغترب في ليبيريا، يرى أن تصرفات بعض المغتربين هي حقيقة مستفزة: "الذي استفزني بتصرفات بعض المغتربين هو نفس السلوك الذي يمكن أن يستفزك في أي مواطن مقيم يملك الراحة المادية، وهو أن لا ينتبه لأبسط شكليات المراعاة بوضع اقتصادي سيء وضاغط على فئات كبيرة من اللبنانيين. كالمبالغة الاستعراضية في لايف ستايل مترف ونشر صور على منصات التواصل الإجتماعي. الاستمتاع بالإجازة لا يعني أن يكون انفصال تام عن المحيط."

ويختم علي مكي حديثه: "أوافق أن قسماً كبيراً من المغتربين غير مسؤول عن الانهيار وليس مضطراً أن يحمل ذنب لا علاقة له به، ولكن يجب الالتفات أن الحقد لا يكون واعياً، وعندما يتصرف المغترب كما لو أنه لا توجد مشكلة في البلد، لا بل يفاخر باستفادته من الواقع الجديد أحياناً، فهذا الشيء سيخلق ردة فعل قاسية تجاه المغترب أراها مبررة، فالمراعاة والحساسية الاجتماعية واجب أخلاقي في هكذا ظروف."

هذه النقاشات والتعليقات تؤكد على اتساع التوتر بين المغترب والمقيم، وهي بالعمق توتر العلاقة الطبقية بين أصحاب الدولارات وأصحاب الرواتب بالليرة اللبنانية بغض النظر عن جنسياتهم وأماكن سكنهم. في حال استمرت الأمور على ما هي عليه، فان الصراع ليس بالضرورة أن يبقى كلاماً فقط. الأزمة الاقتصادية الحادة في لبنان خلقت صراعات اجتماعية عدة وأفرزت طبقات جديدة في المجتمع، تتغير يومياً مع تدهور الليرة اللبنانية، ويوماً بعد يوم يصبح الأمن الاجتماعي أكثر هشاشةً.