رأي

لماذا أعتقد أن صفقة القرن ستمر

لا أريد التقليل من طبيعة وشكل الرفض الفلسطيني، لكن كيف سيوقف الفلسطينيون مرور الصفقة بإعلانهم رفضها فقط؟ وهل الرفض في صالحهم؟
صفقة القرن
Gettyimages

بعد تسريبات وتأجيلات عديدة، رفض فلسطيني لها قبل إعلانها، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مساء الثلاثاء 28 يناير 2019، عن بنود صفقة القرن التي طال الحديث عنها خلال السنوات الأخيرة، خلال مؤتمر صحفي عقده في البيت الأبيض، وكان بنيامين نتنياهو رئيس حكومة تسير الأعمال الإسرائيلي واقفًا مبتسمًا إلى جواره، وعلى ما يبدو أن ترامب مازال مقتنعًا أن خطته تهدف إلى توفير السلام بين الدولة الإسرائيلية والفلسطينية، بل من الواضح إنه على قناعة تامة بأن الخطة فيها مصلحة فلسطينية كبرى ضاربًا بعرض الحائط الرفض الفلسطيني.

إعلان

لا أريد الخوض في تفاصيل بنود الخطة أو الصفقة التي باتت منشورة على جميع شبكات ووكالات الإعلام الأجنبية والعربية، لكن لفت انتباهي طريقة رفض قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية وأيضًا كافة الفصائل الوطنية والإسلامية الفلسطينية لبنود الصفقة حتى قبل أن تعلن بنودها، بل كان هناك رفضًا شعبيًا في مختلف مدن الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث خرج الفلسطينيون من مختلف المدن إلى الشوارع عقب مؤتمر إعلان البنود تعبيرًا عن رفضهم للخطة الترامبية.

استمرت القيادة الفلسطينية بتمسكها الشرائع والمواثيق والقوانين الدولية، وأعلنت مرارًا وتكرارًا عن رفضها لتهويد القدس، وبناء المستوطنات، بشكل سلمي وعن طريق مؤتمرات ومسيرات غالبًا ما كانت سلمية، لكن مَنْ سمع لهم؟

قد يتساءل البعض، ما هو اللافت للانتباه في طريقة الرفض، وتحديدًا رفض القيادة الفلسطينية؟، وللحقيقة الجواب بسيط، حيث أعلنت القيادة الفلسطينية ممثلة بالرئيس الفلسطيني محمود عباس عن رفضهم لبنود الخطة وقال "الصفقة لن تمر" وخرجت مسيرات على رأسهم قيادات الفصائل الفلسطينية في غزة والضفة ورفعوا شعار "لن تمر الصفقة". نعم بهذه البساطة عبروا عن رفضهم، وكأن الحديث للإعلام عن رفضها أو رفع الشعارات الرافضة قد توقف الصفقة التي بدأ تنفيذ بنودها منذ أعلن ترامب عن اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل عام 2018.

لا أريد التقليل من طبيعة وشكل الرفض الفلسطيني، لكن كيف سيوقف الفلسطينيون مرور الصفقة بإعلانهم رفضها فقط؟ هل بالفعل خطاباتهم على الإعلام وإعلانهم رفضها كافيًا؟ وماذا سيفعلون دبلوماسيًا؟ وهل القنوات الدبلوماسية ورفض الصفقة سيوقفها؟ أم مطلوب منهم أكثر من ذلك؟ ثم هل الرفض في صالحهم؟ بمعنى هل هناك خيارات أمامهم عدا الرفض؟

إعلان

منذ الإعلان البريطاني عن وعد بلفور الشهير عام 1917 قبل أكثر من قرن، رفض الفلسطينيون الوعد، وعبروا عن رفضهم، غضبهم واحتجاجهم، ورغم ذلك استمرت الهجرات الصهيونية وبدعم بريطاني في ذلك الوقت، وتوالت الوعودات والخطط البريطانية فيما بعد وقبل إعلان دولة إسرائيل عام 1948، وجميع المقترحات التي عُرضت في وقتها عبرّ الفلسطينيون عن رفضهم لها وحتى خطة التقسيم البريطانية التي أقرتها لجنة بيل عام 1937 والتي منحت 20% من أرض فلسطين التاريخية لإقامة دولة يهودية تم رفضها فلسطينيًا.

في تلك الأعوام تمثل الرفض الفلسطيني ما بين رفض سلمي عن طريق القيادة الفلسطينية في حينه، وأحيان أخرى كان على شكل إضرابات عامة وثورات خاضها الثوار الفلسطينيون في تلك الأعوام، لكن للأسف لم تأتي تلك الأشكال من الرفض بنتائج إيجابية فلسطينيًا، بل استغلت الحركة الصهيونية ومن ثم قادة دولة إسرائيل بعد إعلانها عام 1948 الرفض الفلسطيني المتكرر لكل أشكال الحلول من خلال مهاجمتهم للقرى والمدن الفلسطينية وممارسة أبشع أنواع القتل والدمار للفلسطينيين واحتلال مساحات أكبر من الأرض الفلسطينية حتى سيطروا على أكثر من 90% من الأرض الفلسطينية.

استمر التغلغل الصهيوني الإسرائيلي في الأراضي الفلسطيني في عام 1967 وعام 1987 واقتلاع البشر والحجر حتى عام 1993 ليتم الإعلان من واشنطن عن اتفاقية سلام بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عرفت باتفاقية أوسلو، تم بموجبها إنشاء سلطة وطنية فلسطينية في قطاع غزة ومدينة أريحا بالضفة الغربية، ورفع الفلسطينيون شعار "غزة أريحا أولاً" حيث كان من المفترض بناء مؤسسات فلسطينية خلال الخمس سنوات الأولى لتتمكن من إقامة دولة في مفاوضات الحل النهائي بعد مرور الخمس سنوات، لكن لم يكتب لتلك الاتفاقية الاستمرار بسبب التمسك الإسرائيلي بالأرض واعتمادها على قوتها العسكرية في قمع الرفض الفلسطيني الذي خرج على شكل انتفاضة فلسطينية ثانية عام 2000، ضاربة بعرض الحائط كافة الشرائع والمواثيق الدولية.

إعلان

الفلسطينيون" في منتصف الطريق ويقول لن تمر الشاحنة إلا على جثتي، ولأن سائق الشاحنة "ترامب" لا ينوي التوقف فإن الشاحنة "الصفقة" ستمر حتى لو على جثتنا

استمرت القيادة الفلسطينية بتمسكها الشرائع والمواثيق والقوانين الدولية، وأعلنت مرارًا وتكرارًا عن رفضها لتهويد القدس، وبناء المستوطنات، وعمليات القتل والاعتداء على المواطنين الفلسطينيين، ورفض عمليات الاغتيال الإسرائيلية لقيادات فلسطينية، ورفض جميع الممارسات العنصرية بحق الفلسطينيين، بشكل سلمي وعن طريق مؤتمرات ومسيرات غالبًا ما كانت سلمية، لكن مَنْ سمع لهم؟ ومن وقف معهم وعمل على إيقاف الهمجية الإسرائيلية ضد الفلسطينيون؟ فقط خرجت دول العالم في بيانات شجب واستنكار.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وعقب مؤتمر إعلان بنود الصفقة خرج في مؤتمر صحفي من مقره في رام الله، ومثل خطاباته السابقة، أعلن عن تمسكه بالشرائع والقوانين الدولية، ثم عاد وأعلن أن صفقة القرن لن تمر، وأنه لن يقبل بـ الإملاءات الأمريكية، ولن يقبل إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، ولن ولن ولن … ونوه مشددًا على حضور ممثلين عن كافة الفصائل الوطنية والإسلامية لكلمته موضحًا أن الجميع يستشعر الخطر، وكأن جميع القيادات الفلسطينية أفاقت فجأة من ثباتها لتجد نفسها أمام خطر مفاجئ يهدد وجودها ولم يكن موجودًا في السابق!

باعتقادي، كانت نقطة مطالبة الكل الفلسطيني بضرورة التواجد في الشوارع واستمرار التواجد في الشوارع تحديدًا في المدن الفلسطينية كنوع من التعبير عن رفض الصفقة فلسطينيًا كان أهم ما تحدث به الرئيس عباس، وربما هذا الأسلوب من أهم أشكال الرفض، استمرار الوجود في الشارع وليس الخروج لبضع ساعات في مسيرات حاشدة ومن ثم العودة لمتابعة الرفض في المنزل، لكن أيضًا ليس كافيًا.

إعلان

ولم أستغرب تطرقه للحديث عن المحادثة الهاتفية التي دارت بينه وبين رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية المتواجد حاليًا خارج قطاع غزة، وتأكيدهم على أهمية العودة لطرح ملف إنهاء الانقسام الفلسطيني الذي حدث منذ قرابة 13 عامًا وأدى لانقسام سياسي وجغرافي بين غزة والضفة، وكان بمثابة نقطة ضعف استغلتها الإدارة الأمريكية عدة مرات ضد القيادة الفلسطينية، لكن في الحقيقة لا أعول كثيرًا على إنهاء الانقسام في القريب فكثيرًا ما سمعنا عن هكذا حوارات خلال سنوات الانقسام.

لننظر للواقع الفلسطيني الحالي، نحن منقسمون سياسياً وجغرافيًا. الواقع الاقتصادي مدمر، والمنح الغربية التي كانت تصل للشعب الفلسطيني تتقلص سنويًا، إذن ما هو الحل؟ لنفكر قليلاً في بنود الصفقة ونتمعن بها، وعلى الرغم من سلبياتها واجحافها بحق الفلسطينيون ألا يوجد بها إيجابيات؟

لنعود إلى الرفض الفلسطيني الحالي لصفقة القرن، والذي أراه كمن يقف أمام شاحنة مسرعة. "الفلسطينيون" في منتصف الطريق ويقول لن تمر الشاحنة إلا على جثتي، ولأن سائق الشاحنة "ترامب" لا ينوي التوقف فإن الشاحنة "الصفقة" ستمر حتى لو على جثتنا. ولكن من وقف أمام الشاحنة لم يكن بإمكانه وضع مسامير على الأرض كانت لتكفي حرف الشاحنة عن مسارها دون أن تمر على جثته. والفلسطينيون هكذا، كان يمكنهم من الاستماع لبنود الصفقة، ثم الإعلان عن الموافقة عليها بشروط تضمن تعديل بعض البنود، ذلك أن الموافقة مع شروط كانت لتضمن لهم اكتساب المزيد من الوقت في حوارات وتدخل أطراف دولية أخرى لدعم رؤيتهم في التعديل.

ثم لننظر للواقع الفلسطيني الحالي، جغرافيًا نحن منقسمون بين قطاع غزة وجزء صغير من الضفة الغربية، وسياسيًا أيضًا منقسمون بين حاكم في غزة والسلطة في رام الله، أما الواقع الاقتصادي مدمر، ونسب البطالة تجاوزت الـ50% بين صفوف الشباب، وأوضاع الصيادين والمياه في تراجع، وحتى المنح الغربية التي كانت تصل للشعب الفلسطيني تتقلص سنويًا، إذن ما هو الحل؟ لنفكر قليلاً في بنود الصفقة ونتمعن بها، وعلى الرغم من سلبياتها واجحافها بحق الفلسطينيون ألا يوجد بها إيجابيات؟

من وجهة نظري هناك بعض الإيجابيات التي يجب علينا التمسك بها مثل توحيد غزة والضفة والربط بينهما من خلال جسر أو نفق، ولننظر للفائدة الاقتصادية التي سيحصل عليها الفلسطينيون من خلال المشاريع الاقتصادية وتوفير فرص للعمل، لننظر لفكرة توقيف المد الاستيطاني حتى لو كان لمدة محدودة من السنوات، أليس ذلك نوعاً من الإيجابية؟ بالطبع أعود للتأكيد هنا بأنني لا أطالب بقبول الصفقة كما هي، بل القبول وفق شروط يمكن لها أن تفتح مجالاً للتحاور، تحديدًا في قضية القدس واللاجئين والاستيطان وقضية الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية، لكن الرفض المسبق وإغلاق النوافذ والأبواب لن يأتي بأي نتيجة.

ولنكن أكثر واقعية، الحكومة الإسرائيلية على مدار السنوات والعقود الماضية لم تلتزم ولم يردعها القوانين والشرائع الدولية، وفي ظل دعم إدارة أمريكية يمينية متطرفة بقيادة ترامب، وفي ظل وجود قيادة فلسطينية لا تفعل شيء جدي على أرض الواقع سوى التلويح بالقوانين والشرائع الدولية، إذن ما الذي سيمنعها من تطبيق بنود الصفقة من جانب واحد، بل ما الذي سيمنعها من التحجج بالرفض الفلسطيني لاستغلال الفرصة في بناء مستوطنات جديدة لجعلها أمرًا وواقعًا مفروضًا في المستقبل؟ ربما يحتاج الفلسطينيون لردة فعل صادمة للعالم تلفت انتباهه بدل التعبير عن الرفض من مقاعدهم في مقراتهم، مثلاً كأن تقدم القيادة الفلسطينية استقالتها الجماعية من الرئاسة والوزارات، أو الإعلان عن انهيار السلطة الفلسطينية وعدم قدرتها على الاستمرار في حماية المصالح الإسرائيلية التي عملت على حمايتها منذ اتفاق أوسلو، ربما هكذا أنظار دول العالم لدعمها وتجبر الإدارة الأمريكية وإسرائيل على إعادة مناقشة بنود الصفقة التي على ما يبدو أنهما عازمتان على أن صفقة القرن ستمر.