صحة نفسية

في اليوم العالمي للصحة النفسية: لماذا لا أحب الثيرابي؟

الثيرابي التقليدي ليس سيئًا، لكنه ليس مقدسًا
priscilla-du-preez-K8XYGbw4Ahg-unsplash

الصورة لـ Priscilla Du Preez عبر UNSPLASH.

في عالمٍ مليء بالأزمات الإنسانية والحروب، هناك حاجة ملحة للنجاة. وتختلف هذه النجاة في تعريفها وتطبيقها من شخص إلى آخر. وتصبح السلامة النفسية ضرورة أخرى. لكن التعامل مع السلامة النفسية والأساليب المتباينة للنجاة وسبل التعايش، على اعتبار أنها أمر فردي، تُعد واحدة من التحديات الرئيسية التي تواجه مجال التأهيل النفسي. يجدر بالذكر أن التأهيل/المعالجة النفسية  يمكن تقسيمه إلى جانبين رئيسيين. الجانب الأول هو مجال الطب النفسي، والمعتمد بشكل رئيسي على الأدوية لإعادة ضبط كيمياء المخ. والجانب الثاني هو التأهيل النفسي، أو ما يتم تسميته مجازًا الثيرابي.

إعلان

على نقيض الطب النفسي، يرتكز التأهيل على التعامل المباشر مع سلوك وأفكار الأشخاص. وهناك عدة طرق وتخصصات في هذا المجال، منها اللجوء إلى مختص/ة صحة نفسية لمساعدتنا على تجاوز أزماتنا الشخصية بالتنقيب داخل ذواتنا. ومنها أيضًا تخصص التعامل مع الصدمات النفسية فحسب. وعلى قدر أهمية التأهيل النفسي للأفراد، فهو لديه إشكالياته كتخصص. لكن ذلك ليس محور حديثي اليوم.

في هذا النص، أقدم أفكاري الشخصية تجاه التأهيل النفسي بشكله التقليدي (الجلسات)، مع الوضع في الاعتبار أن هذه القناعة غير مُلزمة لأي شخصٍ آخر/أخرى.

الاتجاه الفرداني

كباحثة نسوية، لدي ميل لرفض الاتجاه الفرداني، أو التركيز على الفرد كنواة للمجتمع (Individualism). لكنني في الوقت نفسه، أدرك جيدًا أن النظر للأفراد بوصفهن/م جزءً من مجتمع أو كيان أكبر، يسحق فردانيتنا. كما أن التعامل مع النجاة بشكل محدود في ثنائية (نجاة فردية/نجاة جماعية)، يُضيف قيودًا علينا كبشر.

من أكثر الانتقادات النسويّة الموجهّة لمجال التأهيل النفسي، هو اعتماده على النجاة الفردية فقط، كما لو أننا خارج السياق الاجتماعي والسياسي الذي نتفاعل معه ونتأثر به ونؤثر فيه. بالطبع، ليست وظيفة التأهيل النفسي إصلاح المجتمعات أو الأنظمة التي تتسبب بشكلٍ رئيسيٍ في وجود الاضطرابات النفسية، خاصًة المزمنة منها. إلا أن الإشكالية نفسها موجودة.

عادةً ما يلجأ مختصات/ون الصحة النفسية إلى الاعتماد على النهج الفرداني في الأساليب العلاجية. وذلك لأن أيضًا عادة ما يذهب البعض بمفردهن/م، إلا لو تضمنت الجلسات أكثر من طرف.

الأزمة هنا ليست في المعالجات/ين، بل في المفهوم ذاته الذي يعتمد على نجاة الفرد، بغض النظر عن المحيط الاجتماعي. وفي أغلب الأحيان يتحمل المحيط المسؤولية الأكبر في نمو الاضطرابات الشخصية والنفسية، وحتى الصدمات النفسية والأزمات العابرة.

إعلان

لا أحد منا يعيش بمعزل عن كل هذا. لا يعيش الفرد منا بمعزل عن كل ذلك. لكننا ندخل جلسة الثيرابي بمفردنا. تجاربنا الذاتية، علاقاتنا بمن حولنا، صدمات الماضي، وتحديات الحاضر والخوف من المستقبل، كلها تخرج عن لسانٍ واحد، منظورنا وحده. 

من الصعب إيجاد منظور آخر عندما يستمع المعالج/ة إلى نفس الشخص كل جلسة. ربما من خلال هذا النهج تظهر أنماط محددة لدى الأشخاص، والتي منها يجد المعالج/ة مدخلًا. لكن الاعتماد على "معالجة" الشخص بمعزل عن المحيط، قد يكون إشكاليًا.

تُعد المعالجة النفسية واحدة من الأدوات النيوليبرالية التي تعتمد نهج الفردانية والذي ينتهي في الأخير إلى عزل الشخص عن المحيط الاجتماعي، وتصوير العنف البنيوي (Structural Violence) على أنه مجرّد حالاتٍ فردية. وقد ذاع صيت المعالجة النفسية في العقود الأخيرة كأداة للتعايش، وهي بالفعل أداة للتعايش. لا يُمكننا إنكار العدد الهائل من الأشخاص اللاتي/الذين وجدن/وا مساحة لإعادة ترتيب الأفكار وفك خيوط الصدمات بفضل الثيرابي التقليدي. لكن ذلك لا ينفي أن بعضنا لديهن/م رؤية نقدية للنهج ككل.

الوصم الجديد

خلال قرون، كان مجال الطب النفسي والتأهيل النفسي موصومًا. وبالتبعية، يتعرض الأشخاص اللاتي/الذين في حاجة إلى العلاج النفسي إلى الوصم بالجنون. كان للنساء النصيب الأكبر من بين هذه الوصمات التي لم يخترعها فرويد، بل رسخها وأضفى عليها طابعًا علميًا من خلال ما أسماه هو وأتباعه من بعده: التحليل النفسي (Psychoanalysis). لم يكن حتى النصف الثاني من القرن الماضي عندما  تمكنت النسويات نقد هذه الافتراءات وتبيان أثرها السلبي على النساء.

أما في العقود الأخيرة، فقد تحوّل المجال من مجالٍ موصومٍ، إلى مجالٍ ضروري. ولم يكُن ذلك بمعزل عن تصاعد وتيرة النهج الفرداني في العالم كنظام سياسي اقتصادي اجتماعي. ولم يكُن أيضًا بمعزلٍ عن تصاعد وتيرة العنف البنيوي والأزمات الإنسانية التي يصعب على الأفراد التعامل معها دون اللجوء لمختص/ة بالصحة النفسية.

إعلان

وعلى الرغم من أهمية التأهيل النفسي، تحوّل إلى ركن أساسي لحياة الكثيرات/ين منا. حتى أنه في الأوساط التقدمية نسبيًا، يتم التعامل معه كتجربة "يجب" على الجميع خوضها، وإلا لاحقهن/م الوصم. هذا الوصم الجديد ليس عن الجنون و"الهسترة." بل عن التخاذل في حق النفس، أو الاتهام بالوقوع فريسة لوصمة الجنون التي لاحقت المجال لقرون. فأصبح كل مَن ليس لديهن/م الرغبة في التأهيل النفسي موصومات/ين بالخوف من وصمة الجنون، بدلًا من اعتبارها مجرد قرار شخصي.

يندرج ذلك تحت بند الإسقاط. فالصديقات/الأصدقاء والعائلة والشريكات/الشركاء رغم التشجيع الصادق للأخريات/الآخرين على اللجوء لمختصات/ين الصحة النفسية، يغيب عنهن/م أن الثيرابي التقليدي (الجلسات)، ليس الآلية الوحيدة للتعايش مع الاضطرابات والأزمات والصدمات النفسية. وإن كانت هذه الآلية ناجحة معهن/م، فقد لا يرغب أخريات/آخرين فيها، ولا يجب وصمهن/م بناءً على ذلك الاختيار أو إصدار الأحكام الشخصية عليهن/م.

خدمات غير متاحة

ما تزال خدمات الصحة النفسية مُكلّفة، حتى أصبح الاعتناء بالسلامة النفسية حكرًا على مَن يستطعن/ون دفع تكاليف الجلسات. لا بد من وجود أن يتواجد طبيبات/أطباء في أقسام الطوارئ بالمستشفيات العامة والخاصة، لأن الأعراض النفس-جسمانية قد تمثل خطرًا على الحياة لدى البعض. 

في الوقت الذي لا بد من وجود طبيبات في أقسام الطوارئ بالمستشفيات العامة والخاصة، لأن الأعراض النفسية قد تمثل خطرًا على حياة البعض. هذه حالة طبيبات/أطباء الطب النفسي. إنما المعالجات/ين فلهن/م وضع آخر.

فمثلًا، ترتفع أسعار جلسات التأهيل النفسي في مجتمعاتنا، وقد تصل من ٦٠ إلى ١٠٠ دولار للجلسة الواحدة. بينما تنخفض أسعار الجلسات في بلدانٍ أخرى، وهو في الحقيقة أمر غير مفهوم في الواقع إلا من زاوية واحدة، وهي أن المعالجات/ين لا يتعاملن/ون مع نفس عدد الأشخاص. وبالتالي، الأجر الذي يحصل عليه المعالج/ة في بلدٍ ما يتناسب عكسيًا مع عدد الأشخاص الراغبات/ين في الخدمة.

إعلان

هناك أزمة أخلاقية في تقاضي أجر لتحسين شعور شخص ما، أو مساعدته/ها نفسيًا. هناك أخلاقيات تحكم المهنة، ولا نشكك في نزاهة المعالجات/ين. رغم ذلك، هناك خروقات يرتكبها البعض من أجل استمرار الأشخاص في الجلسات. وجميعنا نعرف جيدًا تكتيكات التلاعب التي قد يمارسها الأشخاص على المعالجات/ين من أجل أن تصلهن/م صورة محددة عن واقع المتحدث/ة. من المغالطات الشائعة أن مَن يلجأن/ون إلى الثيرابي التقليدي هن/م فقط متعايشات/ون مع صدمة أو اضطراب ما. لكن بعض الأشخاص اللواتي/الذين يمارسن/ون الأذى بحق أخريات/آخرين، يلجأن/ون أيضًا للثيرابي التقليدي. في بعض الحالات، تلاعب الأشخاص بالمعالج/ة، من أجل تحسين شعوره/ها تجاه إلحاق الأذى ضد غيرهن/م.

الأمر الثاني هو أن بعض المعالجات/ين مهددات/ون بفقدان حياتهن/م المهنية في حالة مواجهة الأشخاص بمثل هذه الألاعيب. فقد يلجأ الأشخاص إلى وصم المعالج/ة بأنه/ها تصدر أحكامًا، أو تتهم المتحدث/ة بالتلاعب النفسي. وهو بدوره ما سيؤثر على سمعة المعالج/ة، ويُقلل عدد الأشخاص اللاتي/الذين يلجأن/ون إليهن/م. علينا مناقشة هذه الأمور، لنجد وسيلة تضمن حق المعالج/ة والأشخاص أيضًا.

 إن كان الثيرابي التقليدي سيئًا، فما هي البدائل؟

الثيرابي التقليدي ليس سيئًا، وليس مقدسًا كذلك. مجال التأهيل النفسي يطاله النقد شأن غيره من المجالات المتخصصة. وهذا لا يعني أنه "سيئ." باختصار هناك أفراد لا يحبون الثيرابي. أنا مثلًا لا أحب الثيرابي، ولا أنوي في المستقبل القريب زيارة مختص/ة، كاختيار شخصي. ربما يلجأ أخريات/آخرون، هذه أيضًا قرارات شخصية. قراري لا يجعلني "متخاذلة في حق نفسي"، وقراراتهن/م لا تجعلهن/م "عملوا الواجب" في حق أنفسهن/م.

إعلان

عادة ما يعود نجاح جلسات التأهيل النفسي وفشلها إلى عدة عوامل. منها استعداد الشخص لمواجهة النفس، وتحمّل مفاجآت التنقيب داخل الذات والماضي. ومنها أيضًا أن بعض المختصات/ين يفتقرن/ون إلى المهنية المطلوبة، كإصدار أحكام مسبقة، أو فرض منظور ديني محدد. ومنها فقط أن التجربة لم تؤتَ ثمارها، وليس لهذا علاقة بالتوافق بين الشخص والمعالج/ة.

الخبر السار هو أن الثيرابي التقليدي ليس الطريقة الوحيدة للتعايش مع الاضطرابات والصدمات النفسية. هناك مَن يلجأن/ون إلى الطب النفسي المعتمد على الأدوية، خاصةً في حالات الاضطرابات المزمنة كالقلق والاكتئاب واضطرابات الشخصية. وحتى بعض هؤلاء، قد يلجأن/ون إلى الثيرابي كبديل للأدوية، بالأخص أن لأغلبها أعراض جانبية سخيفة.

الاختيار خارج صندوق الجلسات

هناك مَن يلجأن/ون إلى التمارين، سواء كانت نفسية أو جسمانية، مثل تمارين التنفس أو الاسترخاء والتأمل (Meditation). وممارسة الرياضة والمجهود العضلي مهمان في هذا الصدد،  إذ يستخدمهما البعض لإفراغ شحنات الطاقة النفسية والجسمانية الزائدة، كما في حالات القلق المزمن أو اضطراب فرط الحركة وضعف التركيز (ADHD). وهي بدورها تقوم بتنظيم التنفس والهرمونات المُسببة لخلل كيمياء المخ، كالكورتيزول المسؤولة عن التوتر.

وهناك مَن يلجأن/ون إلى مجموعات الدعم (Support Groups)، وهو ربما العامل المشترك بين كل آليات التعايش مع الاضطرابات والصدمات النفسية. فالمعالجة الجماعية بالحكي والمشاركة، لها أثر بالغ الأهمية في تجاوز الصدمات، خاصة لو متعلقة بالعنف البنيوي، وحتى الفردية كالمتعلقة بالإدمان بأنواعه.

وهناك آليات كالدراما النفسية (Psychodrama) والتي يلجأ فيها الأشخاص إلى إعادة تمثيل مشهد من حيواتهن/م أمام مجموعة، للمساعدة على التجاوز. هناك كذلك علاج الصدمات النفسية المحددة (EMDR)، والمعتمد على التعامل مع حدث واحد فقط في حياة الشخص، وتكون مع مختص/ة بالصحة النفسية. هناك آليات تعايش أقل شيوعًا، كالمهلوّسات (Psychedelics)، والتي يتم استخدامها للمرور إلى أعماق الإدراك، وتحدث تحت إشراف طبي. وهناك آليات بسيطة مثل الهوايات، كالطبخ، والرسم والتلوين، والرقص العلاجي. وأخرى كالتدوين والملاحظة القريبة للسلوك والأفكار.

كل هذه، وغيرها، أدوات للتعايش والتأهيل النفسي خارج فكرة الثيرابي التقليدي المتمثل في الجلسات والذي يعتقد كثيرات/ون أنه هو الشكل الوحيد للتعايش مع الصدمات والاضطرابات النفسية. علينا فقط احترام حق الأشخاص في تقرير ما يناسبهن/م، والتوقف عن الوصم بحجة "أننا نريد مساعدة مَن نحبهن/م." المساعدة والدعم لمَن حولنا، لا يتضمنان – أبدًا – الضغط عليهن/م في اتجاه محدد نراه الأفضل، لأنه ببساطة نجح معنا. علينا إحاطة هؤلاء بالتقبّل والمودة والطيبة، وأن نكون أكثر حساسية تجاه ما نقوله ويخص سلامتهن/م النفسية. في النهاية، كل شخص منّا يجب أن يكون له/لها الحق في القرار، مهما اختلفنا مع هذا القرار أو رأيناه "ضد مصلحتهن/م." علينا التخلّي عن الدور التربوي، والتوقف عن سلب أهلية الأشخاص منهن/م، ولو حتى بشكلٍ غير مقصودٍ.