Untitled_Artwork (1)
حياة

أمس طار الأرز: برنامج الفضاء اللبناني المنسي

كيف انضم لبنان إلى سباق الفضاء

بعد احتفال دولة الإمارات العربية المتحدة بأول مهمة لها لكوكب المريخ لتصبح خامس دولة تستكشف الفضاء بعد الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وأوروبا والهند، عادت ذاكرة البعض لبرنامج الفضاء اللبناني الذي بات منسيًا منذ سنوات طويلة، ولا يزال الكثير لا يعرف شيئًا عنه. هذا البرنامج الذي يبدو حالياً وكأنه من عالم آخر، كان يتصدر عناوين الصحف في حينها. 

إعلان

التجربة اللبنانية المنسية قد تدلل على حقيقة قد تكون غابت عن عقول الكثيرين، ألا وهي أنه في كثير من الأحيان قد يكون الطموح وحده كافيًا كي يحقق المرء أي هدف يبتغيه. فبينما قد كلف المشروع الإماراتي "مسبار الأمل" 200 مليون دولار، فإن برنامج الفضاء اللبناني قد احتاج تكاليف ضئيلة كبداية متواضعة لبلد صغير، حيث لم يتكلف المشروع أكثر من 300،000 دولار على مدار ست سنوات. وربما لو أن الظروف قد سارت بالاتجاه الصحيح كما قد رسموها في مخيلتهم، من يعرف ربما يكون للبنان الآن باع طويل في علوم الفضاء؟

معقول، وين التفاصيل؟
خلال الستينات، حينما تنافست الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي على سيادة الفضاء، كان هناك متسابق آخر لم يول اهتمامًا كبيراً لمحاولاته الوصول إلى النجوم كونه دولة عربية صغيرة والمسؤول عن هذه الفكرة هو شاب أرمني. ولد مانوغ مانوغيان في القدس عام ١٩٣٥، وبدأ شغفه بالفضاء حينما كان صبيًا تأثر بأدب الخيال العلمي وبشكل خاص روايات جول فيرن وكان يقوم بنحت أشكال الصواريخ على مكتبه المدرسي. 

حصل مانوغ على بعثة لدراسة الرياضيات والفيزياء من جامعة تكساس في الولايات المتحدة. بعد تخرجه، في عمر الـ 25 تم تعيينه كمحاضر في جامعة هايكازيان (كانت معهداً في ذلك الوقت) وهي جامعة أرمينية خاصة في بيروت. لم ينتظر مانوغ طويلاً قبل أن يبدأ بتحقيق حلمه. بعد توليه مسؤولية نادي هايكازيان للعلوم في خريف عام 1960، نشر المحاضر الشاب على لوحة إعلانات الطلاب سؤالاً يقول "هل تريد أن تكون جزءًا من جمعية معهد هايكازيان للصواريخ؟"

إعلان

لم يتوقع مانوغ ردة الفعل، فقد أعرب الكثير من الطلاب عن رغبتهم بالانضمام للنادي. لم يكن لدى مانوغ موارد مالية كافية، لكنه قرر الاعتماد على جزء من راتبه الضئيل لشراء ما يحتاجه للتجارب. بدأت جمعية هايكازيان للصواريخ في إنتاج "صواريخ صغيرة" لا يزيد كل منها عن نصف متر، وذلك بميزانية أولية قدرها 750 ليرة لبنانية فقط، وتم صناعة النماذج الأولية للصواريخ من الورق المقوى وقطع الأنابيب. 

يتذكر مانوغ في مقابلة سابقة، أن حماس الطلاب وشغفهم قد عوض افتقار الجمعية للأموال، حتى أنه لم يكن لديهم خيار في البداية سوى إطلاق نماذجهم الأولية من منزل عائلة أحد أعضاء الجمعية والذي يقع في الجبال اللبنانية. في إحدى عمليات الإطلاق الأولى، تسبب سقوط الصاروخ الذي كان معلقًا على قاذفة بدائية للغاية بحدوث حريق، مما دفع الجيش اللبناني للتدخل في ذاك الوقت بتحديد مناطق معينة لتلك التجارب.

ومع تقدم تجارب الطلاب وتحسن جودة الوقود الكيميائي، بدأت صواريخهم بالارتفاع أكثر، ففي حلول أوائل عام 1961 صنعوا صواريخًا يمكنها الوصول إلى ٣ كيلومتر، ووصل الصاروخ التالي "سيدار ٢" إلى ١٣ ألف كيلومتر. كل منها يحمل اسم شجرة لبنان الرمزية "الأرز" ولم يحتج الأمر طويلاً، قبل أن تتحول جمعية كلية هايكازيان للصواريخ لمصدر فخر وطني، وتمت دعوة مانوغ إلى حفل استقبال أقامه الرئيس اللبناني في ذلك الوقت فؤاد شهاب لإبلاغه بأنه سيتلقى تمويلًا محدودًا لعامي 1962 و1963.

إعلان

عندما أصبح الحلم حقيقة
بعد حصولها على التمويل والتشجيع، تم تسمية النادي بالجمعية اللبنانية للصواريخ، ووصل الأمر لطباعة طابع بريد تحمل صورة الصاروخ اللبناني الذي سينطلق إلى الفضاء. يعني، في تلك اللحظة انضم لبنان إلى سباق الفضاء. في حديثه مع بي بي سي، يقول مانوغ أن الوضع السياسي بدأ يؤثر على المشروع: "ذات مرة تلقيت مكالمة من مكتب الرئيس يطلب منا التأكد من أن الصواريخ لا تقترب من قبرص. لذلك تحركنا قليلاً نحو الجنوب ولكن أصبح هناك مصدر قلق آخر، لأننا حينها كنا نقترب من إسرائيل."

_70786754_3_1964.jpg

بعد انتشار الأخبار السعيدة عن هذا المشروع، تلقى مانوغ عرضًا مغريًا من دولة عربية لم يذكر اسمها، شمل العرض قصرًا يعيش به ومختبر من تصميمه الخاص، لكنه رفض لأنه على يقين تام بالهدف المنشود من هذا العرض، فهو يعارض العنف من أي نوع.

في عام 1966، كان من المقرر إطلاق صاروخ واحد أخير لكنه كاد أن ينتهي بمأساة، حيث تم إطلاقه في البحر الأبيض المتوسط وعلى ما يبدو من مسافة آمنة من قبرص، لكن المسار انحرف نحو سفينة تابعة للبحرية البريطانية تراقب عملية الإطلاق، فهبط على بعد بضعة أمتار منها.

الحرب والنسيان
التطورات الإقليمية كانت تلاحق جمعية الصواريخ، وقد وصلت التوترات بين إسرائيل ومصر وسوريا والأردن ولبنان إلى نقطة الغليان، ففي حلول الوقت الذي اندلعت فيه حرب الأيام الستة في يونيو 1967، ومع اقتراب الحرب الأهلية اللبنانية، انتهز مانوغيان الفرصة لمتابعة الدكتوراة في جامعة تكساس، خصوصًا أنه شعر أن الجيش لم يشاطره رؤيته للمشروع كونهم كانوا حريصين على تسليح الصواريخ، مما دفع برنامج الفضاء اللبناني إلى سبات عميق لم يستيقظ منه بعد.

تزامنت السنوات التي أعقبت تفكك جمعية الصواريخ مع أسوأ فترة في تاريخ جامعة هايكازيان. الحرم الجامعي الذي يقع في وسط المدينة، تعرض لأضرار متكررة خلال الحرب الأهلية بسبب انفجار سيارة مفخخة خارج البوابة الأمامية في أوائل الثمانينيات. بعد تعرض عدد من الطلاب للخطر، تخلت الجامعة عن مبانيها الرئيسية وبحثت عن أماكن إقامة مؤقتة في حي أكثر أمانًا في شرق بيروت، ثم عادت إلى موقعها الأصلي في منتصف التسعينيات.

على الرغم من أن الجمعية اللبنانية للصواريخ كانت قد حظيت بالكثير من الاستحسان في ذلك الوقت، إلا أنه تم نسيانها بالكامل، وفقدت أغلب مواد الأرشيف خلال الحرب الأهلية، إلى أن قام المخرجان خليل جريج وجوانا حاجي توما بإصدار فيلم وثائقي في عام 2012 باسم جمعيّة الصّواريخ اللّبنانيّة: لبنان يغزو الفضاء."

مانوغ الذي يبلغ من العمر ٨٥ حالياً، عمل لمدة ٤٠ عاماً بجامعة جنوب فلوريدا، أستاذًا للرياضيات، وكمستشار هيئة التدريس لمنظمة طلابية بالجامعة وهي جمعية الملاحة الجوية والصواريخ (SOAR) والتي تنافس في مسابقات ناسا. طلاب موناغ أيضًا نجحوا بتحقيق بعض أحلامهم، وأصبح أحدهم مديراً مركز هيرشل للعلوم التابع لناسا. أما هامبار كراجوزيان، الذي فقد عينه في انفجار كيميائي أثناء تجربته مع وقود الصواريخ في الستينيات، فقد أنتج العشرات من أدوية العيون الرائدة.