edited-01
مقال رأي

لا توجد مساحة آمنة.. عن انتهاكات دوائرنا التقدمية

شهادة فاطمة فؤاد ليست شهادة اغتصاب مفجعة فحسب؛ هي صفعة تُنبهنا أننا بحاجة لحراك مدني لا يستخدم أدوات السلطة ولا يُعيد إنتاجها فقط ليحل محلها

خلال يونيو الماضي، نشرت الناشطة اللبنانيّة فاطمة فؤاد شهادة مؤلمة تروي تفاصيل تعرّضها للاعتداء الجنسي من موسيقي فَلسطيني وموسيقيّة مصريّة في العاصمة بيروت بحفل استقبال السنة الجديدة ٢٠٢٠، وتواطؤ مُشين اختبرته بعدها. تحاول فاطمة الشكوى لإدارة "برزخ" الذي كان يستضيف الحفل بالتنسيق مع "معازف" المجلة الموسيقية العربيّة، والذي أيضًا هو محل عملها. فيتواطآ مُتعللين أن المغتصب فلَسطيني، وستنعكس شهادتها بالسَلب عليه نظرًا لأوضاع الفلسطينيين/ات الأمنيّة. لتُفاجئ فاطمة أن المجلة رغم علمها بالواقعة ورغم وجود شهادات أخرى متواترة حول الشخص، تستمر في التعاون معه و"تلميعه". وبعد عامين ونصف، تُقرر فاطمة البَوح ثم العُزلة.

شهادة فاطمة وجرائم قتل عدد من النساء التي شهدها الشهر الماضي في أماكن تعتبر آمنة للنساء كالجامعة أو أماكن العمل أو في حفل موسيقي أو ضمن أصدقاء يشاركونا أفكارنا وصراعاتنا، سلطت الضوء على أن فكرة المساحة الآمنة ليست في الحقيقة آمنة للنساء ولا تزال تشكل تهديداً مباشراً على حياتهن.

إعلان

تأتي شهادة فاطمة فؤاد كاشفة لهذه الازدواجية بين الأمن والاستغلال، وهي ليست حالة فردية. من قبلها كانت حادثة ما عُرفَ في مصر باسم واقعة "فتاة الإيميل" عندما تواطأ حزب يساري لترشيح عضوًا مُتهمًا بالعنف الجنسيّ لرئاسة الجمهوريّة؛ واتهم أعضاؤه النسويّات أنهنّ يُساهمن في الاستهداف الأمني لأعضاء الحزب. ونرى موقع "مدى مصر" يُدير حواراً صحافيًا مع خالد يوسف الذي استغل امتيازاته للإفلات من العقاب بينما سُجنت شريكاته وفقدن سمعتهن للأبد، لأنه "رمز من رموز المعارضة." فيما يقوم موقع "متراس" الفلسطيني الذي تعاون في السابق مع مؤسسة كويرية فلسطينية، يدعم الانقضاض مجتمعيًا عليها بخطاب كراهية مليء برهاب المثليّة. وموقع "جيم" الذي يدّعي النسويّة، انتشرت حوله شهادات من عاملات سابقات تم فصلهن تعسفيًا. وكذلك

إعلان

وهذه مؤسسة حقوقية لا تقبل تعيين النسويات لأنهن "يُثرن المشاكل بلا داعي." وتلك مؤسسة نسويّة تتناقل عنها وقائع الانتهاكات بحق العاملات/ين بها. وهذه حركة سياسية رفضت إصدار بيانًا يُدين ملاحقة والقبض على المثليات/ين لأن ذلك سيُغضب جمهورهم المحافظ، وسيُفقدهم "الظهير الشعبي." وهذه مجموعة أصدقاء يصدّقون الناجيات فقط لو لم يكُن صديقهم هو المتهم. وحفنة من النساء تُدافع عن مغتصب لأنه حقوقي ولأنهن لم يختبرن ذلك معه، مُتغاضيات عن مواقعهنّ وامتيازاتهنّ التي تحميهن – نسبيًا – منه.

أشكال التمييز والعنف داخل الدوائر المدنية
ضمن محاولاتنا المستمرة لإيجاد مهرب من مجتمعاتنا التقليدية المحافظة، حاولنا تخطّي الأبويّة بجُثث نساء تُقتَل وتُعنَّف كل يوم في بلداننا العربية. وكان ملاذنا أناسٌ يشبهوننا في الأفكار؛ نتشارك معهن/م المساحات، ونتقاسم الأهداف: مساحات آمنة ومجتمعات بديلة لتلك التي تركناها خلفنا لننجو.

كانت أكثر هذه المساحات جذبًا، هي الدوائر التقدميّة المهتمة بالسعي لإرساء قيم العدالة والمساواة ونقد كل أشكال السلطة وعلاقات القوى غير المتكافئة. كانت أكثرها ظهورًا هي تلك التي يكون أفرادها نشطات/نشطين في مجالات السياسة والثقافة والحريّات الفرديّة والنسويّة. ولم تكُن سذاجة منّا أننا افترضنا أن هؤلاء يطبقون نفس القيم في علاقاتهن/م الشخصية والمهنية. ولا يُعيبنا سعينا لنكون جزءًا وفاعلًا لمدّ هذه المبادئ لما هو خارجها. ولكن اكتشفنا عام يلو الآخر أن المساحات الآمنة والمجتمعات البديلة هي الامتداد المُصغّر لهذا الخارج، وتُعيد إنتاجه كما لو أنها تتعمد تبنّي القيم بشكل علني للترويج لنفسها، وتنتهك نفس القيم داخلها. وعندما أقول القيم التقدميّة، فأنا أعني الوقوف ضد كل أشكال التمييز والهرميّة وعدم تكافؤ القوى والفُرص. قيم يحاول متبنوها - قدر الإمكان - خلق بدائل للقهر السائد. 

ولنتحدث بشكل أكثر تخصيصًا، فإن هذه المساحات/الدوائر/التحالفات، تقوم على الامتيازات وعلاقات القوة والسلطة غير الرسميّة، ما يخلق بيئة غير آمنة أو مُريحة يشعر فيها المهمّشات/ون بتهميشٍ مُضاعف؛ وخاصة لو كانت بيئة عمل. فلكي يتم قبول شخص في "الدوائر"، لابد وأن يُثبتن/ون استحقاقهن/م لهذه المكانة، إما بالتفاني المُطلق في خدمة أو تملّق أشخاص آخرين/أخريات لهم من الامتيازات ما يرفع رصيده عند البقية. وإما أن يكون له/لها امتيازات قائمة بالفعل: كالطبقة أو العلاقات الشخصية مع أشخاص مهمة في المجال، أو بالأقدمية.

إعلان

تكرار الانتهاكات في الدوائر المدنية تضعها في موقف مشبوه من إعادة إنتاج الأبوية، واستخدام نفس أدوات السلطة ولكن على دراية وفهم وقَصد: العنف، النبذ، والهيمنة. وتُزيد عليهم الابتزاز باسم الحفاظ على الحراك.

أما القادمات/القادمين الجُدد (New Comers)، فيكون لهن/م نصيبًا كبيرًا من التمييز بدءًا من الطبقة والتعليم ومرورًا بالعنف الجنسي والعنصرية الإثنيّة والطائفية الدينية. كما يمتد ذلك للوظائف في تلك المجالات. فلكي يتم قبولكن/م في وظيفة، فالأمر متوقّف على أي مدى أنتن/م معروفات/ين في هذا المجال، ثم الخبرة، وأخيرًا الكفاءة. وآهٌ لو أنكن/م على خلاف شخصي مع مُعلن الوظيفة (لو تم الإعلان عنها؛ أغلب الوظائف يتم الحصول عليها بالتزكيّة)، أو صديقاته/أصدقائه، انسوا التعيين. 

كل ذلك، يجعل من الدوائر التقدميّة تجمّعات حصرية واقصائية للغاية. وذلك ليس لأسباب مُتعلقة بالخوف من الأمن والاحتلال، بل للحفاظ على هرمية هذه الدوائر، وموقعها الطبقي، ورأس المال الاجتماعي الذي يتم تبادله بطرق محدودة جدًا جدًا. يُضاف إلى ذلك، نوع القضايا التي يتم تبنيّها. فمثلًا تحتل قضايا النساء والكويرز موقعًا هامشيًا في الدوائر السياسية كالأحزاب والحركات. وكلما قلّت الامتيازات، كلما كانت الانتهاكات أكبر. 

أما عن مواجهة تلك الانتهاكات، فالقوالب جاهزة متى تم الحديث العلني. فالكثيرات/ون منّا لا يتحدثن/ون علانية عن الانتهاكات التي تعرضن/وا لها، خشية سوء السمعة داخل المجال/الدائرة، وبالتالي، فالفرص المحدودة ستنعدم. أما القوالب والتبريرات، فمتعددة: تارة يتم وضع أعباء على الضحايا بضرورة السكوت وعدم اللجوء لآلية الفَضح أو الشكوى الرسميّة "لحماية الحراك المدني المستقل من بطش الأجهزة الأمنيّة والعسكريّة." وتارة يُتهَمن/ون بالتعاون مع الأمن والوشاية، أو التكذيب الصريح، أو عرقلة سير الشكاوى، أو الابتزاز، أو التواطؤ لحماية المعتدين بسبب امتيازاتهن/م.

إعلان

دوائرنا الآمنة ليست آمنة
إن كنتن/م منخطرات/ين في هذه المساحات، لابد وأن صادفتكن/م العديد من الشهادات المتناقلة شفويًا عن انتهاكات بيّنة يرتكبها الأشخاص المُهيمنون على هذه المساحات في حق الأفراد من غير ذوي/ذوات الامتيازات.

لقد كان الدافع الأول لانخراطنا هو إيجاد بدائل للعنف والانتهاك، ولنشعر بالقبول والتصديق والتضامن، لاسيما النساء والكويريين/ات. إلا أن هذه القيم الآن تبدو مستحيلة لو ما تمت إعادة هيكلة لهذه المساحات/الدوائر/التحالفات. لأنه وعكس ما يتم الترويج له، هذه المساحات ليست ببعيدة عن إعادة إنتاج علاقات القوة وبشكل أكثر التواءا. فهذه المساحات تكتسب أهم صفتين؛ الأولى: الفهم المزعوم للسلطة وتعريفاتها غير المقتصرة على الحكومات والمناصب الرسمية. والثانية: هي طرق مقاومة هذه السلطة.

نحنُ بحاجة لإعادة هيكلة تنسف الهرمية التي تتشكّل على أساسها هذه الدوائر. نحتاج لنقد ذاتي لمفهوم السلطة وعلاقات القوة.

إن الجيل الحالي لآبائنا وأمهاتنا، يُمكن أن يكون الجيل الأخير الذي ارتكب العنف بمُسميات أخرى، مثل التربية والأخلاق والشرف والحب. نعم، هي حُجج أبوية فارغة ومُعنِّفة، لذلك أردنا التحرر منها وتدميرها من أجلنا ومن أجل الأجيال الأصغر. وإن كانت مجتمعاتنا "التقليدية المحافظة" ارتكبت العنف دون وعي وأحيانًا لاقتناعها أن ذلك حبًا وحماية، وكان السبب في ذلك هو أن حكومات بلداننا أفقرت مجتمعاتنا وهمّشتها ورسخّت لهذا العنف بالقوانين. فما حُجة "المجتمعات البديلة والدوائر التقدميّة" التي تفهم جيدًا ما هو العنف وما هي علاقات القوة وما هي أدوات الإخضاع والسيطرة والانتهاك؟ حراكاتنا المدنية بتنوعاتها وثراءها ترى في الحكومات والأجهزة الأمنيّة خصومًا وحيدين، وتُميّز نفسها عن المجتمعات التقليدية بأنها أكثر تحررًا. لكن تكرار الانتهاكات في الدوائر المدنية تضعها في موقف مشبوه من إعادة إنتاج الأبوية، واستخدام نفس أدوات السلطة والمجتمعات التقليدية ولكن على دراية وفهم وقَصد: العنف، النبذ، والهيمنة. وتُزيد عليهم الابتزاز باسم الحفاظ على الحراك.

كل الخراء عن ضرورة توحيد صفوفنا في مواجهة الاستبداد السياسي، نسمعه عندما يخُص الأمر انتهاكًا جنسيًا للنساء والكويريين/ات. كل الأولويات السياسية التي لا تضع النساء وقضاياهن أولوية باسم النضال السياسي، تستخدمنا وتستغلنا لتتناحر على السلطة. ويصبح الأمر أمامنا واضحًا: هؤلاء لا ينتقدون السلطة وأدواتها، بل يسعون لأن يكونوا هم السلطة. والدليل هو هذه الانتهاكات وهذا العنف المتكرر والشائع في الدوائر "التقدمية" والسياسية، والتنحية المستمرة لقضايا النساء والكويرز. وهذه ليست شهادة أن الدوائر النسوية والكويرية خالية من تلك الانتهاكات وهذا العنف والتواطؤ. تلك لُعبة علاقات قوّة يلعب فيها رأس المال الاجتماعي (Social Capital) دور البطولة. فلو كانت الدولة تحتكر العنف وتحتكر السياسة بأدواتها الأمنية، ففي الدوائر المدنية يُحتكر رأس المال الاجتماعي بالعلاقات والمصالح الشخصيّة.

نحو دوائر آمنة بالفعل وللجميع
نحنُ بحاجة لإعادة هيكلة تنسف الهرمية التي تتشكّل على أساسها هذه الدوائر. نحتاج لنقد ذاتي لمفهوم السلطة وعلاقات القوة. نحتاج لفهم ديناميكيّات علاقات القوة المعتمدة على رأس المال الاجتماعي أو العلاقات الشخصيّة داخل الحراك. وبحاجة لوجود سياسات واضحة داخل المؤسسات المدنية تأخذ الشكاوى بجديّة؛ غالبيتها لا يوجد لديها سياسات للإبلاغ عن العنف الجنسي حتى الآن. بحاجة لأن تفهم الجهات المانحة أن تلك شروطًا جادة يجب الاتفاق عليها مع الجهات/الأفراد المستفيدة من المنح، وتُهدد المنح بالإلغاء لو تم تداول شهادات عن انتهاكات بحق آخرين/أخريات قامت بها الجهة المستفيدة. بحاجة لأن تكون هذه الجهات الممولة أكثر إلمامًا بكيف تُساهم سياساتها في إعادة إنتاج علاقات القوة داخل الدوائر المدنية، عندما تُرغم كل مؤسسة حديثة التأسيس أو فرد، على تقديم خطابات توصية من أشخاص معروفات/ين لدى الجهة الممولة. 

وبحاجة للاعتراف أنه لا يوجد مساحة واحدة آمنة. شهادة فاطمة فؤاد ليست شهادة اغتصاب مفجعة فحسب؛ هي صفعة تُنبهنا أننا بحاجة لحراك مدني لا يستخدم أدوات السلطة ولا يُعيد إنتاجها فقط ليحل محلها. صفعة يُمكننا معها القول أن الانفصال بين ما يُسمى الدوائر التقدمية وبين الحراكات النسويّة الكويرية آتٍ لا محالة. وأن هذا الحراك الجديد سيقف للحراك القديم موقفه من الحكومات والأجهزة الأمنيّة والعسكرية. ولمقاوماتنا بقيّة.