مقال رأي

مجزرة حي التضامن: دليل، لا استثناء

الشعب السوري قال كلمته منذ ١١ عاماً وأكثر.. "يلي بيقتل شعبه خاين"
4202229115653766

"تحية للمعلّم، تحية للبدلة الزيتية ولكرامتها" بضع كلمات يتفوّه بها مبتسماً أحد "شبيحة" جيش النظام السوري أثناء ارتكابهم احدى مجازرهم العائدة إلى عام ٢٠١٣ في حي التضامن بحسب الفيديو الذي نشرته الغارديان الأسبوع الماضي.

حفرة في الأرض، مقبرة جماعية مليئة بالجثث، يسوقون المعتقلين المعصومي الأعين والمربكين إليها ويرمونهم بداخلها قبل أن يطلقوا النار عليهم، ويحرقون الجثث في النهاية. هكذا وبكلّ هدوء، وبابتسامة قاتلة يرتكب الشبيحة مجزرتهم ويهدونها "للمعلّم" منتظرين مكافأتهم.

إعلان

لا تشكّل "مجزرة التضامن" التوثيق الأوّل للمجازر الجماعية التي قام بها نظام الأسد وبالتأكيد لن تكون الأخيرة، فقد سبقتها تسريباتٌ أخرى أكّدت الإجرام الممنهج ومجازر جماعية أخرى ارتكبها نظام الأسد بحق المعتقلين، ومن هذه التسريبات صور "قيصر" التي نُشِرت في عام ٢٠١٤، حيث قام عسكري منشقّ سُمّيَ بقيصر بتسريب ٥٥ ألف صورة  لمعتقلين قُتلوا تحت التعذيب بين عامي ٢٠١١ و٢٠١٣ في سجون نظام البعث، وهذه التسريبات ليست ولن تكون غريبة ولا مُفاجِئة من نظامٍ اعتاش ولا يزال على أبشع أنواع الظلم والقتل.

وبعد انتشار مقتطفات هذه المجزرة بأيامٍ قليلة، نُفّذ المرسوم الذي أصدره الأسد والذي يقضي بمنح العفو العام عن جزء من المعتقلين واصفهم بمرتكبي الجرائم الارهابية، متناسياً أن العفو لا يمنحه المجرم والقاتل، وأن العفو يصدر عن الضحيّة وليس الجلّاد، فبالنسبة له العفو ليس إلّا قراراً يصدره ليتبرّأ من مجزرةٍ ارتكبها - شمل العفو مرتكبي الجرائم الإرهابية قبل تاريخ ٣٠/٤/٢٠٢٢، باستثناء تلك التي أفضت إلى موت إنسان. 

وكما دائماً يبقى هذا النظام مصرًّا على تحويل كل اللحظات والقرارات التي يفترض أن تكون سعيدة كالعفو إلى لحظاتٍ مأساوية وتراجيدية. فلم يعلن عن أسماء المعفى عنهم (ربما لأنه لا يعرف أسمائهم)، ولا تاريخ اطلاق سراحهم، لم يؤمّن النقل للمعتقلين، لا بل رماهم خارج سجونه المظلمة، وحيدين ومن بعد سنواتٍ، في الشوارع من دون المال وأي وسيلة للتواصل مع عائلاتهم.

هكذا وقف المعتقلون في شوارع دمشق بعد إطلاق سراحهم، تائهين ويبحثون عن من يعرفهم أو يساعدهم، منهم من كان فاقداً للذاكرة، منهم من يعاني من الأمراض، وجوههم حزينة ومرهقة، عظامهم نافرة من أجسادهم النحيفة، منهم من قضى أكثر من ١٠ سنوات في سجون النظام وخرج ليعرف أن عائلته قُتلت جرّاء الحرب، وآخرين عَلِموا أن منازلهم وأحيائهم دُمّرت. هم خرجوا ليعلموا أن الأشياء تغيّرت والحياة لن تكون من جديد كما كانت قبل اعتقالهم، وأنهم بعد نجاتهم من معاناة معتقلات الأسد سيعيشون معاناة وأوجاع أخرى هم ليسوا مستعدين لها.

على الجهة الأخرى، المشهد لم يكن أقل مأساوية، مشهد آلاف العائلات والأهالي الذين انتظروا خروج المعتقلين في الشوارع لفتراتٍ طويلة آملين أن يجدوا بينهم أبنائهم المغيبين منذ سنوات. مئات الأشخاص يحاوطون المعتقلين عند وصولهم، الأم والأخت والزوجة والأخ والأب والأبناء الذين يحملون هواتفهم وصور أحبائهم ويسألون المعتقلين عنهم، يسألون المعتقلين عن إلتقائهم بهم في السجون، فهم لا يبحثون عن شيء سوى القليل من الأمل والحقيقة.

نظامٌ وعلى رأسه القاتل، أطلق سراح المعتقلين بهذه العشوائية، لكي يذكّر السوريين والسوريات بأنه لا يزال يحكم بلداً كاملاً بالخوف، ليؤكّد لكل من عاش في سوريا يوماً ما بأنه لا يزال يتحكّم بحياتهم، بآمالهم وخيباتهم، بسلامتهم النفسية، لا يزال يتحكّم بذاكرتهم وحاضرهم ومستقبلهم، وبأنه وعلى الرغم من كل القتل الذي مرّ لا يزال قادراً على القتل وعلى المزيد من القتل والدمار.

وبعد كل القتل الذي حصل وكل الدماء التي سُفكت، لا يزال السوريون والسوريات يجاهرون برفضهم للنظام، وأنهم رغم كل التضحيات والخيبات لم يندموا على ثورتهم وعلى الكرامة، ولن يعفو عن القاتل ونظامه وعسكره. الشعب السوري لن ينسى المجازر والمقابر الجماعية، لن ينسى من قُتلوا تحت التعذيب في دمشق وحلب وسجون تُدمر وصيدنايا، وعلى نظام الأسد أن يعرف أنه مهما حاول أن يلمّع صورته أمام المجتمع الدولي من خلال إنتخاباتٍ من هنا وعفوٍ من هناك، فإن الشعب السوري قال كلمته منذ ١١ عاماً وأكثر.. "يلي بيقتل شعبه خاين."