image_6483441 (12)
مقال رأي

كيف تعتاش صناعة التنمية الذاتية على إحساسك الدائم بالإحباط

هناك جانب سام لمحتوى المساعدة الذاتية يجعلنا نشعر بالتقصير وجلد الذات طوال الوقت

إن كنت واحد من هؤلاء الذين يتصفحون مواقع التواصل الاجتماعي بشكل مستمر، فلا بد أنك مررت بذلك النوع من المنشورات التي تخبرك أن السعادة قرار، وأنك المسؤول الأول والأخير عن سعادتك وتعاستك، وأنك إن كنت تعاني من الفقر والهم، فهذا لأنك لا تبذل الجهد المطلوب منك كي تقوم بتغيير ظروفك للأفضل. وإن كنت ممن يعتقد واهماً أن هذه المنشورات تحسّن علاقتك مع ذاتك وتزيد من حماسك تجاه الحياة، فلا بد أنك ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك فقمت بحجز استشارة شخصية مع أحد أصحاب هذه الأفكار ليقوموا بمساعدتك على إيجاد طرقاً مبتكرة للوصول إلى سعادتك وأحلامك. كل هذه المنشورات "السامة" والتي تحملك مسؤولية كل ما يحدث لك تندرج تحت مظلة كبيرة إسمها علوم التنمية الذاتية.

إعلان

مؤخراً مررت على منشور على تطبيق إنستغرام لشخص يقوم بمتابعته الآلاف ويعرف نفسه على أنه "لايف كوتش" يقول فيه نصاً: "إذا كنت عم تعاني، فأكيد في شي غلط عم تعمله، الله ما خلقك لتعاني." يذهب هذا المنشور إلى ما هو أبعد من تحمليك مسؤولية معاناتك، بل إنه يخبرك أنك تعاني ببساطة لأنك "بتعمل شي غلط." ثم يصل صاحب المنشور إلى قمة السميّة بأن يضيف مسوغاً دينياً على نظريته، فيخبرك ببساطة أن الله لم يخلقك لتعاني، وأنك تعاني لأنك جاهل ومخطئ. لم أشعر أن باستطاعتي المرور على هذا المنشور مرور الكرام، فقمت بالنزول لأسفل المنشور لقراءة تعليقات متابعيه على هذا الهراء. 

على الرغم من عشرات التعليقات التي هاجمت المنشور كونه غير منطقي وجائر، كانت هناك الكثير من التعليقات المحزنة لأشخاص أسقطوا هذه العبارة على معاناتهم وكتبوا "فعلاً، أنا بعاني لأني ما كنت فاهمة الحياة منيح" أو "كلامك كتير مزبوط وبيريح القلب." ما زاد من غضبي وحزني في ذلك اليوم، هو تلك الرسائل التي تلقيتها من صديقات لي يخبرونني أنهم يعانون بشكل يومي نتيجة لأمراض مزمنة أصيبوا بها، أو لأنهم ناجيات من حوادث اغتصاب وتحرش، فكيف لهم أن يتصالحوا مع فكرة أنهم يعانون لأنهم "بيعملوا شي غلط" فقط لأن أحدهم قرر رمي تلك الأحكام جزافاً في الفضاء الرقمي، ثم وضع أعلى صفحته رابط استشارة خاصة ثمنها 300 دولار تحصل معه بعدها على "رحلة وعي ذاتي." 

المشكلة في التنمية الذاتية هي أنها أصبحت صناعة رائجة تبحث بشكل مستمر عن أموال الإنسان المحبط التعيس.

يطلق مصطلح التنمية البشرية في العالم العربي بشكل خاطىء على علوم التنمية الذاتية، ففي حين أن التنمية البشرية تعرف على أنها العمل على توسيع الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أمام الفرد، لتضمن بذلك الرقي بمستوى الأفراد والدولة معاً اقتصادياً وثقافياً (وهذا لا مشكلة فيه) فإن التنمية الذاتية (self-help) هي تلك الأفكار التي تعمل على تطوير الأفراد بشكل فردي ليكونوا أشخاصاً أكثر إيجابية ونجاحاً (وهذا لا مشكلة فيه أيضاً). المشكلة في التنمية الذاتية هي أنها أصبحت صناعة رائجة تبحث بشكل مستمر عن أموال الإنسان المحبط التعيس، لتقدم له حلولاً سريعة تخرجه من إحباطه وتعاسته إلى الفرج والنور.

إعلان

تنشر هذه الأفكار بشكل مهول على هيئة كتب ومحتويات مرئية وورشات عمل وغيرها، حتى بلغت إيرادات هذه الصناعة في سنة 2020 أكثر من ١١ مليار دولار أمريكي وتوقعات بأن تصل لـ ١٤ مليار في ٢٠٢٥. لا داعي طبعاً للحديث عن دور جائحة كورونا في زيادة أرباح هذه الصناعة، فمن منا لم يقم بأنشطة جديدة لم يعتد القيام بها قبل الجائحة لكي يخفف وطأة العزل المنزلي والحالة النفسية السيئة؟ إن من يبدأ باستهلاك هذا النوع من المحتوى، سيجد نفسه غير قادر على التوقف عن هذا الاستهلاك لأنه ببساطة يشعر بتحسن نسبي على تحسن حالته النفسية، أو أنه فرد من مجموعة تشاركه نفس المشكلات. ولكن، هل يبدأ مستهلك هذه الكتب بالعمل الفعلي على تطوير مهاراته وخبراته، أم أنه يبقى رهيناً للتحمس المؤقت دون أي نتائج عملية واضحة؟ 

شخصياً، أصرف الكثير من مالي على كتب التنمية الذاتية، والكثير من وقتي بمشاهدة الفيديوهات التي تعمل على تطوير ذاتي. ولكنني في الوقت عينه، أصرف أكثر بكثير من هذه الأموال على الدورات التدريبية وورشات العمل المتعلقة بمهنتي كصحفية، كما أنني أقوم بجلسات الدعم نفسي، وأتناول الطعام الصحي، وأشارك بدورات تدريبية رياضية، وما إلى ذلك مما يساعدني في تحقيق أهدافي التي وضعتها لنفسي. 

ما أريد أن أقوله أنني رغم أنني أستثمر في ذاتي بشكل مستمر، إلا أنني أحاول قدر الإمكان أن لا أقع في الفخ الذي تحدث عنه آرسطو حين قال أن "للقراءة قدرات علاجية" فأنا لا أقرأ كتب التنمية الذاتية لكي أشعر أنني لست الوحيدة التي أعاني من مشكلة ما، أو كي أرضي نفسي بأن أقنعها أنني أعمل على تطويرها. الحقيقة أنني أتصالح مع نفسي بخصوص المشكلات التي أعاني منها مثل العصبية الزائدة، سوء تنظيم الوقت، التسويف المستمر، فأقوم بمعالجة كل مشكلة على حدة عن طريق اختيار كتاب يناقش كل مشكلة بشكل خاص. بالإضافة إلى ذلك، أحاول أن أرى كل هذه المنشورات التي تملأ الفضاء العام بعين ناقدة، حتى ولو كان المتحدث يملك من الكاريزما ما يجعله يبدو صادقاً.

إعلان

إن من ينظر إلى محتوى التنمية الذاتية الموجود في العالم العربي، سيجد أن القائمين عليه والذين أصبحوا يعتاشون من وراءه، قد قاموا بإضافة لمسات دينية على هذا المحتوى. فكيف لك أن تنجح في إقناع جمهور متدين بأنك تقدم نظريات منطقية؟ ببساطة قم بخلطها مع ما يؤمنون به مسبقاً، وهذا سيضمن لمنشوراتك الانتشار الأكبر، ولاستشاراتك الحجز الأسرع، ولنقودك الزيادة الأكثر. قم بإلقاء نظرة على جميع حسابات من يعملون كـ "خبراء تنمية ذاتية" ستجد في بند التعريف الخاص بهم رابط لاستشارة خاصة لا يقل ثمنها عن مائة دولار، وهذا هو السبب الذي يدفع هذا الخبير أن يقنعك أنك لا تبذل الجهد الكافي كي تكون راضياً. هو ببساطة يريدك أن تبقى تعيساً كي تبقى بحاجة له ولمحتواه ولورشات عمله ولاستشاراته، ويبقى هو على رأس عمله ببيع الوهم.

 إن هذا النوع من المحتوى -للأسف-  لا يتوقف، بل -للأسف أيضاً- ينتشر ويضاف إليه فروع أخرى لا تستند على أي أسس علمية، والدليل الوحيد على وجودها هو أنها نجحت مع أشخاص آخرين، مثل قوة الجذب مثلاً. فأصبحنا نسمع بشكل يومي عن أشخاص قاموا بالتفكير مطولاً بهدف يريدون الوصول إليه، حتى أتى ذلك اليوم وحصلوا على ما أرادوا. ولأن "الغريق يتعلق بقشة" يصبح من السهل أن تقنع أي شخص بأن التفكير بربح مبلغ مئة ألف دولار بشكل يومي سيجعله يحصل عليهم حتماً. وعلى الرغم من أن قوة الجذب تصنف على أنها علم زائف، لا يزال الكثيرون يؤمنون بها ويدعون غيرهم للانضمام لهم في هذا الإيمان، ذلك لأن الإنسان لن يدخر أي مجهود مجاني يمكن أن يجلب له السعادة أو الأموال. 

إعلان

نحن نحتاج إلى وقف هذه الإيجابية السامة التي تخبرنا أننا أسباب السعادة والتعاسة بمعزل عن سياقاتنا الاجتماعية والشخصية.

هناك شيء آخر يدعوني للتفكير في من يقف وراء هذه الصناعة إلى جانب من يعتاشون عليها، ففي كثير من البرامج الصباحية على الشاشات الحكومية وغير الحكومية، ستجد أحد "خبراء التنمية الذاتية" يطل عليك ليخبرك أنه يجب عليك العمل على نفسك أكثر حتى "تخرج" من البطالة، وأنك يجب أن تدعم بلادك في النمو بدلاً من أن تكون عالة عليها، وأنك إذا قمت بالنظر بإيجابية للحياة ستصبح حياتك أفضل فجأة وغيرها الكثير من الأمور التي تحملك مسؤولية كل شيء سيء في حياتك. إن الضخ المستمر لهذه الأفكار بشكل منظم، سيجعل الكثيرين يغفلون النظر عن التفكير في السبب الحقيقي في عدم حصولهم على وظيفة، وسوف يكونوا أقرب إلى اتهام ذواتهم بالتقصير ويقومون بجلد الذات، بدلاً من اتهام الظروف، الفقر، الفساد، التوزيع غير العادل لفرص العمل، نهب وتبديد موارد الدولة، وغيرها الكثير من الأسباب الحقيقية للبطالة والفقر.

ببساطة، إذا كنت غير قادر على الحصول على وظيفة أو تحصل على راتب متدني، فإن كل المفاهيم حول الإدخار والاستثمار والتفكير بإيجابية وقراءة كل كتب المساعدة الذاتية حول الادخار مثلاً هي بدون أي معنى لأنك لا تملك "رفاهية" التخطيط والقدرة على التوفير بالأساس.

إنهم لا يريدونك أن تنظر إلى الأعلى، يريدونك أن تبحث في داخلك عن كل أسباب كل المشاكل المحيطة بك. يريدون سواء بشكل واع أم لا، أن يضعوا كل اللوم عليك كفرد وليس على رئيس بلدك أو حكومتك وليس على مديرك في العمل، وليس على الواسطة، أو على التضخم وأقساط الجامعة والمدارس واللا مساواة في الأجور والقوانين الظالمة والفساد الذي يكبر على الرغم منك كوحش والرأسمالية التي تتغول في القلوب والعقول.

لا يعني كل ما سبق أننا يجب أن نتوقف عن تطوير ذواتنا، ولا أننا لسنا بحاجة لمن يساعدنا في إيجاد الطريق للنجاح والسعادة، لكننا بالتأكيد بحاجة أكبر إلى خبراء في مجالات مختلفة كي يقوموا بتبادل خبراتهم مع الجميع. نحن بحاجة إلى المزيد من الوعي، الثقافة، الدعم النفسي، حق الوصول إلى التعليم والصحة والعمل. نحن نحتاج إلى وقف هذه الإيجابية السامة التي تخبرنا أننا أسباب السعادة والتعاسة بمعزل عن سياقاتنا الاجتماعية والشخصية، وإلى وقف تربّح الآلاف من الأشخاص الذين يعتاشون على شعورنا الدائم بالتقصير، وأننا ببساطة تعساء لأننا لا نقوم باستهلاك أكبر قدر من منتجاتهم وبالتالي "عم نعمل شي غلط."