مقال رأي

اتهام الشيخ عبد الله رشدي بالاغتصاب: التضامن النسوي بين التخبط والرعاية

هناك أزمة أخلاقيّة كبيرة في دعم النساء اللواتي يدعمن المحرضين على العنف وممارسي العنف
toa-heftiba-Bt_hazqan9c-unsplash

نشرت جيهان جعفر، عراقية الجنسيّة، على حسابها الشخصي بموقع التواصل فيسبوك أنها تعرضت للاعتداء الجنسي من الشيخ المصري عبد الله رشدي. رشدي هو أكثر الشيوخ المُحرضين على العنف ضد النساء حضورًا إعلاميًا. وقد عُرف بآرائه المُشجعّة على العنف والاغتصاب الزوجي، وتغريداته ذات الإيحاءات الجنسيّة مع منتقداته. رشدي، كما له منتقدين من كل التيارات بما فيها الدينية كالأزهر الشريف ووزارة الأوقاف المصريّة، له مجاذيب وداعمين ينقصهم فقط إنشاء مقام والطواف حوله. وله كارهين، أو بالأحرى، كارهات، أغلبهنّ نسويات. ورغم أن ظهور شهادة الاغتصاب فرصة للانقضاض على رشدي ومجاذيبه، إلا أن أغلب النسويات التزمن الصمت. وكان هذا الصمت بابًا لجحيم من نوعٍ آخر.

إعلان

القصة
ترجع أحداث الشهادة إلى مطلع أغسطس الحالي، حين اتفقا جيهان ورشدي على الزواج بعد ملاطفة إلكترونية دفعتها لحجز طائرة من بلغاريا حيث تقيم، إلى مصر. قبل لقائهما، اشترطت جيهان ألا يمارسا الجنس قبل إعلام زوجته الأولى وموافقتها على الزيجة التي حدثت شفاهيًا؛ دون أوراق، دون حقوق، وحتى الشهود كانوا على الهاتف. إلا أن بمجرد الاختلاء، اعتدى رشدي عليها جنسيًا، وتوترت علاقتهما في الأيام القليلة السابقة لمغادرتها القاهرة، وانتهت بطلاق شفهي.

تشعر بعض النسويات بالحرج الذي وضعته جيهان على أكتافهنّ بطريقة غير مباشرة حين عبّرت أنها لا تُريد دعمًا من كارهيه، وأنها لا زالت تحترمه

انتشرت الشهادة بحماس بين منتقدي الشيخ الذين/اللاتي انتظروها بفارغ الصبر. وبدأ مجاذيبه في تكذيب الناجية/الضحية؛ تارة يتهمونها بفبركة الشهادة، وتارة يتهمونها بأنها مسيحيّة تكره المسلمين. أما النسويات، فاستقبلن الشهادة بحذر وفضّلت أغلبهنّ الانتظار لاستشفاف ما إن كانت تلك خدعة من رشدي نفسه بحثًا عن الأضواء كما يفعل على الدوام. وعن جيهان التي قررت خوض معركتها مع رشدي بعيدًا عن النسويّات، تواصلت مع صحافي مصري ينشر معلومات دقيقة عنها، بما فيها صور بطاقات هويتها وتأشيرات دخولها مصر وديانتها. وظهرت بنفسها في بثوث مباشرة تدحض ادعاءات أنها شخصية وهميّة تسعى للنَيل من سمعة الشيخ.

إعلان

تضامن نسويّ مُتخبِّط
لم تكُن قصة الاعتداء صعبة التصديق، ولم تتعارض مع شعار "نصدّق الناجيات" لأن بحسبة منطقية بسيطة: المدافعين عن الاعتداء الجنسي، غالبًا يكونوا همّ أنفسهم معتدون جنسيًا. رغم ذلك وحتى اليوم، لا يوجد دفاع نسوي جماعي عن جيهان، كالحملات والهاشتاغات. تقتصر المناصرة النسوية – حتى الآن – على السخريّة من رشدي ووصمه من خلال أحداث الشهادة. وربما السبب في ذلك هو الحَرَج الذي وضعته جيهان على أكتافهنّ بطريقة غير مباشرة حين عبّرت أنها لا تُريد دعمًا من كارهيه، وأنها لا زالت تحترمه (!).

في رأيي ورغم أهميته، ليس ذلك السبب الرئيسي. فقد فرضت قصة جيهان تساؤلات نسوية أخلاقية لا تُحل بين ليلة وضُحاها وقد لا تُحل أبدًا: هل ندعم جميع النساء في كل السياقات؟ هل بسبب كرهنا لرشدي وأمثاله، أسقطنا غضبنا على النساء اللواتي يتقربن منهم؟ هل نرى العنف الذي يطول هؤلاء النساء، عقابًا مُستحق لأن تقربهن من هؤلاء المحرضين أعطين لهم شرعية لانتهاك نساء أخريات؟ هل كانت جيهان أو غيرها مخدوعة، أم هي امرأة تتفق مع خطاب رشدي التحريضي الذي تدفع ثمنه نساء غيرها، لتدفع ثمنه هي الأخرى في نهاية المطاف؟ ما هو المعيار؟ وما هو اتجاه بوصلتنا الأخلاقية في أوقات مُربكة كالتي تحدث الآن؟

لا يوجد قاعدة تفرض على النسويات الانخراط في كل القضايا، كما لو أن الواحدة منهنّ إنسان آلي مُجرَّد من المشاعر بما فيها التخبّط والغضب

حتى لو لم يكُن هناك دفاعًا جماعيًا وحملات نسوية لمناصرة جيهان، فعلى الأقل، لم تتجه النسويات للتكذيب والتشكيك عملاً بمبدأ: ذوقي مما ارتضيتيه على أخريات. بل حاولن على استحياء دعمها بالسخرية من رشدي. ويبقى الارتباك والتشوّش حاضران بقوّة في المشهد. متى يحق لنا كنسويات أن نلتزم الصمت، أو ننأى عن الاشتباك بطرق مباشرة؟ في رأيي، كل وقت هو وقت مناسب للصمت وعدم الاشتباك. ولكل نسويّة الحق في الارتباك والتساؤل. نعم؛ هناك أزمة أخلاقيّة كبيرة في دعم النساء اللواتي يدعمن المحرضين على العنف وممارسي العنف. وهناك أزمة أخلاقيّة تفرض وجودها، لو تعرضت إحدى هؤلاء للعنف منهم. وأزمة ثالثة حول رغبتهن أصلاً في تلقي الدعم النسويّ. لم تلجأ جيهان لمجموعات نسوية واسعة الانتشار تبنت قضايا عنف جنسي سابقة وأوصلت المعتدين للسجون. بل تعاونت مع صحفي مصري، ذا اسم متواضع في مجاله وعدد متابعين أقل، ينشر عنها الوثائق، وفي نفس الوقت يُطالب منتقدي رشدي بانتقاد جيهان والتشكيك في روايتها بدلًا من التنمر على أطفاله. أي دعم هذا؟

إعلان

قد يرجع ذلك لاختلاف جيهان نفسها مع الخطابات النسويّة، كالغالبية العظمى التي تُشيطن النسويات. ربما تخوّفت من ارتباط اسمها بالنسويات اللواتي هاجمنَ رشدي منذ اللحظة الأولى ورأت أن ذلك سيؤثر سلبيًا على تعاطف الناس معها. وتلك ليست غلطة جيهان أو غلطة النسويات وخطاباتهنّ. إنما هي أزمة شيطنة الخطاب النسوي بوجه عام وتصوير الحملات النسويّة كحملات للهجوم على الرجال والنيل منهم. أدى ذلك إلى عدول نساء كثيرات عن التحالف النسويّ الذي حتمًا لم يكُن سيدعو للتشكيك في صدقها تحت أي ظرف، كما فعل الصحفي، أو إدانتها بعدم اللجوء للجهات القانونية كما صرّح أحد وكلاء النيابة المصريين في منشور أعلن دعمه الكامل لرشدي.

ولا يسعنا في هذا الوقت إلا احترام رغباتهن حتى لو لا يبادلننا هذا الاحترام. أما الانخراط في الدفاع عنهنّ، فهو أمرٌ آخر لا يجب أن يكون من المُسلّمات. لأنه لا يوجد قاعدة تفرض على النسويات الانخراط في كل القضايا، كما لو أن الواحدة منهنّ إنسان آلي مُجرَّد من المشاعر بما فيها التخبّط والغضب.

إعلان

التضامن النسويّ ليس فعلًا رعائيًا
عندما نتحدث عن التضامن النسويّ، نحنُ نتحدث عن المشاعر؛ هذا الوقود الذي يُحركنا كنسويات بجانب مظلومية تاريخية هي الأكبر. ليكون التضامن النسويّ بذلك منطقيًا، لكن أساسه ونقطة انطلاقه هي مشاعر الغضب والظلم والرغبة في تحقيق العدالة لنا وللأخريات/الآخرين. وربما تلك نقطة خلاف بيننا وبين هؤلاء الذين يعتبرون تضامننا النسويّ أمرًا اجباريًا أو مُسلمًا به Taken for granted. أي أن كل نسوية مُجبرة على إبداء تضامنها علنًا مع أي قضية نسائية أو نسويّة، وإلا يتم وصمها بالازدواجيّة أو التقصير. وهذا الاتجاه إلى تحويل النسويات إلى آلات دعم تلقائية، قائم في الأصل على المفهوم الأبويّ في تأنيث الأفعال الرعائية وقصرها على النساء.

بالمنظور الأبويّ، النساء عاطفيّات ومُقدمات للرعاية. وبنفس المنظور، يُعاد إنتاج النسويات كذوات عاطفية يجب عليها تقديم الرعاية للنساء والفئات المُهمّشة لأنهنّ نساء. هذا المفهوم الخاطئ عن النسوية كفعل رعائي، شائع حتى بين صفوف داعمي النسوية وبعض النسويات أنفسهنّ. حيث يتوقّع من النسويات تقديم الدعم دون وضع مشاعرهنّ الإنسانيّة في عين الاعتبار. سواء كانت تلك المشاعر هي الخوف من تبعات إظهار الدعم، أو الضغط النفسي الذي تعانيه النسويات بسبب تعاملهنّ مع قضايا العنف بشكل يوميّ، أو تخبّط البوصلة الأخلاقية والنسوية، كما هو الحال في قصة جيهان ورشدي. وحل ذلك كلّه هو معرفة الخطوط العريضة بين التضامن النسويّ كاختيار والتزام شخصيّ، وبين الأفعال الرعائية المفروضة على النساء من جانب، والمتوقعة منهنّ من جانب آخر.

أواجه أزمة أخلاقيّة كبيرة بين انحيازي للنساء وبين أن تكون إحداهنّ مُشجّعة لشخص مُحرّض على العنف الجنسي، وفي نفس الوقت تعرضت لعنف جنسيّ منه

كناشطة وباحثة نسويّة تتابع قصة جيهان عن كثب، أواجه أزمة أخلاقيّة كبيرة بين انحيازي للنساء وبين أن تكون إحداهنّ مُشجّعة لشخص مُحرّض على العنف الجنسي، وفي نفس الوقت تعرضت لعنف جنسيّ منه. ولعل من المفيد في هذا الصدد تفكيك هذه الأزمة بنوع من التجريد. فلو جرّدنا قصة جيهان من فرضية أنها تدعم شخص يُحرّض على العنف ضد النساء، والتفتنا إلى أنها امرأة تعرّضت لعنف جنسيّ، لوجدنا أن دعمها واجبًا. لكن شكل هذا الدعم وطريقة تقديمه تختلف من نسوية لأخرى، ومن مجموعة نسويّة لأخرى. فمنّا مَن هي غير قادرة على تقديم الدعم لأسبابها الشخصيّة، ومنّا مَن تختار الدعم العلني، ومنّا من تختار الدعم غير المباشر بالسخريّة من رشدي، ومنّا من تدعم بالصمت. 

في هذا السياق، الصمت دعم نسويّ. وعدم الاشتباك المباشر هو أيضًا دعم نسويّ. مرة ثانية، على الأقل، لم تتجه أغلب النسويّات إلى لوم جيهان على التقرّب من رشدّي، ولم يشمتنَ في تعرضها للعنف الجنسي كعقاب مُستحق لأنها لا تؤمن بالنسويّة التي نتبناها. على العكس وذلك ليس تفضلًا عليها، التزمت أغلبنا الصمت لأن حديثها قد يضُر جيهان في معركتها، ولأن الالتزام برغبتها في عدم التعاون مع النسويات والمجموعات النسويّة، هو أقل شيء يُمكن عرضه من القادرات والراغبات في الدعم دون أن يتم اتهامهنّ بالتقصير أو الإشارة لهنّ كأشخاص لا تُقدم الدعم للمختلفات مع أفكارهنّ. تختلف طرق الدعم وتتعدد آلياته، ويبقى لكل شخص منّا الحق في التشوّش والتخبّط دون اتهامات ودون خلط بين الدعم النسوي وأفعال الرعاية المؤنثة والموضوعة على أكتاف النساء.